لـ هاجر حسين
يشعر المرء في أحيان كثيرة بالانتماء إلى برنامج تلفزيوني أو سلسلة الحياة اليومية التي يقدمها مؤثر على الانترنت لأنها تلمس شيئًا ما في حياته أو تحفزه لفعل شيء، ويمكن أن يقيس المرء تأثير ذلك عليه مع الوقت، فإما أن يرى التحفيز حقًا أو أن يكتفي بالاستمتاع فقط. فهل تشعر بهذا النوع من الانتماء؟
اعتدت في صباحات نهاية الأسبوع مشاهدة بعض الفيديوهات على اليوتيوب بعناوين مختلفة لكن جميعها تعرض أسلوب حياة مصوريها، كانت بمثابة دافع لي لإنجاز مهامي المتراكمة وتحضير وجبات صحية أكثر وممارسة رياضة المشي وغيرها من العادات المفيدة التي قد ترفع من جودة حياتي، كانت محفزًا فعالًا جدًا لاحظتُ معه التأثير الايجابي لأسلوب حياتهم وتوثيقهم لتفاصيلها على قراراتي وأسلوب حياتي إلى أن اتخذ الأمر مجرىً لم أكن أعي بوجوده، كنت قد توقفت عن ممارسة تلك العادات وأصبحت مشاهدة فيديوهاتهم هي مصدر إنجاز وهمي اشعر به، فأكتفي بمطالعة تلك الفيديوهات المختلفة لعدة ساعات رامية خلفي كل مهام اليوم لإنجازها في اللحظة الاخيرة.
بعد أن فطنت للأمر وتداركت نفسي توقفت عن استهلاك ذلك الكم الهائل من المحتوى المحفز لحياة الآخرين أعدت تركيزي لحياتي والمهام التي تعنيني حقًا دون التخلي بشكل كامل عن تلك الفيديوهات كدافع معنوي بسيط، ولكن ليس كليًا.
العيش غير المباشر
الحالة التي أصابتني تدعى العيش غير المباشر (living vicariously) وهي أن تعيش الحياة من خلال تجارب الآخرين ومراقبتك لحياتهم فبدلًا من أن تكون جزءًا من تلك التجارب، تكتفي بشعور الرضا والسعادة الناتج عن مشاهدتك لأشخاص يخوضونها.
قد تلازمك الحالة عند مشاهدتك لمسلسل أو فيلم أو قراءة كتاب يرافقك لفترة طويلة، فتصبح تلك الحياة الخيالية مصدرًا للعديد من المشاعر فتنغمس فيها للحد الذي يجعلك تعيش تجارب تلك الشخصيات وكأنك مررت بها، وهذه الحالة بحد ذاتها ليست أمرًا سيئًا فنحن نحتاج بين الحين والآخر لانفصال بسيط عن الواقع نعيش من خلاله في خيالنا، فلطالما كانت الأفلام والروايات مهربًا للعديد من الأشخاص الذين يمرون بضغوطات في حياتهم الشخصية، فيجدون في تلك العوالم الخيالية ما يكسر رتابة أيامهم ويجدد لهم نشوة الحياة، لكن إن سمحت للعيش غير المباشر من خلال الأشياء والأشخاص يستحوذ على جزء كبير من حياتك، فستتحول تلك العادة إلى أسلوب حياة بائس تُلغى معه لذة العيش الحقيقية.
العيش من خلال مؤثري التواصل الاجتماعي
في حديث لي مع احدى صديقاتي عبرت فيه عن استنكارها لبعض التعليقات التي يشاركها مؤثرو السوشال ميديا على صفحاتهم مثل «ليش ما نزلت شيء اليوم مو قادر ابدأ يومي» أو «نزلي صور لقهوتك عشان أقدر أتقهوى»، تساءلت ما إذا كانت مشاعرهم تلك حقيقية أم أنها مجرد مغالاة في التعبير عن الإعجاب بالمحتوى? فخمنت بدوري أن أصحاب تلك التعليقات يمرون بحالة متقدمة من العيش غير المباشر، فينغمسون في عوالم أولئك المؤثرين للحد الذي يجعلهم عاجزين عن ممارسة أبسط المهام في حياتهم مثل شرب القهوة دون محفز خارجي وغالبًا يكون المحفز من شخص يميلون لأسلوب حياته ويستغرقون ساعات طويلة في متابعته والعيش غير المباشر من خلاله، بالأخص ذلك المؤثر الذي يعرض تفاصيل حياته فكلما كانت تفاصيل المشاركة أدق كلما كان تأثر مستهلك المحتوى أو المتابع بالمؤثر أكبر.
قد يتفاقم هذا التأثير للحد الذي لا يفقدك استقلاليتك في العيش وحسب، بل وأجزاء من هويتك فنحن عندما نشرع بمتابعة أحدهم فإننا في الغالب نميل لمن يشبهنا في الاهتمامات والغايات والذوق، وهذا التشابه يلتقي في نقاط دون غيرها لكن في حال أنك وقعت ضحية للاعجاب المفرط بأحد المؤثرين، فقد يدفعك ذلك الاعجاب للحد الذي ترغب فيه بالقيام بكل شيء على طريقته، فبدلاً من اتباع أحلامك وشغفك، قد ينتهي بك الأمر إلى اتخاذ قرارات بناءً على الاختيارات التي يتخذها ذلك المؤثر.
فتدفع رغباتك جانبًا وتعيش من خلاله، وهذا يعني أنك لن تعيش الحياة على طبيعتك ولن يكون لديك تجارب مباشرة ولن تستكشف الإمكانيات الموجودة في حياتك بشكل كامل.
لماذا يلجأ البعض للعيش من خلال الآخرين؟
لنتحدث هنا بمنطقية، في رحلة الحياة لن تتمكن من اختبار جميع المشاعر، ولن تكون كل التجارب من نصيبك، قد تُجبر على ما تكره وتُحرم ما تحب، فتتشكل في روحك ثغرات، فتميل لملئها بطرق عدة، إحدى تلك الطرق هو أن تعيش ما حرمت منه بشكل غير مباشر من خلال الأشخاص والأفلام والكتب.
في حلقة من بودكاست عن الصداقة تقول إحدى المؤرخات إن «واحدًا من الأسباب الرئيسية لرواج مسلسل التسعينات الشهير (Friends) بين الجيل الجديد (جيل زد) هو أنهم يرون في المسلسل تعويضًا لما فقدوه في حياتهم الواقعية.» فغالب أبناء هذا الجيل يفتقرون لعلاقات الصداقة الوطيدة فيميلون لعيشها بشكل غير مباشر من خلال شخصيات المسلسل ويدرجون أنفسهم في مجموعة الأصدقاء الخيالية تلك في حين أنهم في الواقع ليسوا جزءًا منها إلا أنهم يشعرون كما لو أنهم كذلك. وجدت الدراسات التي أجرتها شيرا غابرييل، والتي نشرت في مجلة (EverydayHealth) أن «أدمغتنا لا تميز المجموعات الحقيقية في حياتنا عن تلك التي نراها على الشاشات. على الرغم من أننا نعلم أنها ليست حقيقية، إلا أنها تبدو كذلك بالنسبة لنا.» وذلك ما يجعلنا نكتفي بالعيش غير المباشر حيث أنه يضمن لنا عيش الشعور دون الاضطرار لبذل أي مجهود.
عش من خلال نفسك
في زمن أصبح فيه استهلاك المحتوى شيئًا أساسيًا لمواكبة الجميع ومن الصعب ألا ننخرط في حياة الآخرين ولو بشكل نسبي، حاول أن تكون جزءًا من صناعة ذلك المحتوى بدلًا من استهلاكه فقط، ولا يشترط في المشاركة أن تكون علنية، فيمكنك توثيق تجاربك وطريقة عيشك لنفسك، فتكون أنت بطل قصتك، شخصيًا ساعدني توثيقي لأحداث يومي على عبور بعض الأيام الثقيلة، فبالعودة إلى تلك الصور والفيديوهات أعيش من خلال نفسي، فأتذكر شعور الانجاز أو لذة التجارب التي خضتها مما يدفعني للتخطيط لتجارب أكثر وإنجاز مهام يومي.
وكما ذكرت سابقًا، فالعيش غير المباشر ليس سيئًا على الإطلاق، إن قادك لتبني فكرة أو أشعل في نفسك الحماس للتجربة أو ألهمك للتنفيذ، إنما يكمن سوءه في جعلك تتطفل على قصة ليست قصتك، وتكتفي بشعور وهمي مؤقت يسلب منك شجاعة الخوض ولذة التعلم من الإخفاق، في مسرح الحياة لا هامش لأحد، كل منا يملك دوره الفريد وقصته الملهمة التي تستحق أن تعاش وتروى، لا تتخلى عن دورك وتترجل عن منصةٍ شُيدت لك لتكون ضمن مصاف الجماهير.