تبدأ الحكاية عندما يلتقي القانون مع الكونترباص في مقدمة انت عمري..
منبئاً عن موعد رحيل قطار الذكريات مع “الأيام اللي راحوا”..
نافثاً دخانه إلى الداخل، لا الخارج، حد الاختناق..
حكايا أحكيها بصمت داخلي مع سراب بلغةٍ غير منطوقة..
عتاب يماثل العتاب الموسيقي بين آلتي القانون والكونترباص على “عمري اللي ضايع” مع حسرة “إزاي يحسبوه ازاي عليا”؟
تتوقف التوليفة الأولى وكأنها استراحة قصيرة توقظني لبرهة أستعيد فيها أنفاسي..
لكن ثومة لا تمهلني وقتاً..
ثقبٌ أسود يبلعني مؤقتاً إلى زمانٍ آخر أعيد أنا تشكيل أقداره..
سأكون فيه المؤلف والمخرج والمنتج لجميع المشاهد التي تطفو في عقلي الخصب، حلمًا ينتصف اليقظة..
أنسج خيوطًا تلتصق ببعضها البعض كبيت العنكبوت..
أخبرك فيها أنك “النور الي ابتدأ به الصباح”..
وأني “بك صالحت أيامي وبك سامحت الزمن”..
يسكرني بدون مسكرات حتى ينقطع الخيط الفاصل بين الواقع والحلم..
يتركني حيث رماني، في اللازمان..
تائهةً بين الواقع والحلم.. لا أعرف مكاني بينهما..
أستعيد وعيي فجأة مع دوي بوق سيارة من خلفي ينبئني باخضرار الإشارة الضوئية..
مذكراً إياي بأن أوهن البيوت هو بيت العنكبوت..
المتأمل في الطبيعة يعرف تمامًا أن دليل الحياة فينا وفي الطبيعة يتجلّى من خلال مجموعة من الحركات المتنوعة و المتناغمة والتي بسكونها تتوقف الحياة ابتداءًا من أرقها نبضة القلب إلى أغلظها حركة الأجرام السماوية. هذا الإيقاع الناتج عن تلك الحركات جعلنا ندرك أن الكون هو أول صور من صور الموسيقى وأن خلق العالم لم يكن سوى سيمفونية عالمية عظيمة. فكل حركة في الوجود يصدر عنها نغمة وتحكمها نسبة رياضية حسب اعتقاد الفيلسوف اليوناني الأشهر فيثاغورث أن “العالم نغم وعدد”. لكن لو كانت الموسيقى مجرد عدد ونسب، لماذا لديها تلك القدرة السحرية على التأثير علينا؟
حبلٌ ممتد بين الفلك والروح
في حين أن فيثاغورث اعتبر أن الموسيقى عبارة عن صوت خارجي، أعتقد جماعة إخوان الصفا وخلان الوفا أن الموسيقى صوت داخلي متعلق بالروح متجاوزًا النطاق المادي للمكان، و نسجوا خيطًا ممتدًا يصل بين السماء والأرض مبيّنين أن الموسيقى في السماء هي اللحن المنساب من تسبيح الملائكة، وأن الموسيقى في الأرض هي صدى لتلك الأنغام وحنين واشتياق لها. وهو ما يعلّل الغرض من قدسية النصوص الدينية برداء موسيقي في الهياكل وبيوت العبادة بهدف زيادة فاعلية النص.
ولكن لو كانت الموسيقى بهذه القدسية و الروحانية، لماذا إذًا اعتبرها البعض بأنها تابو؟
تأرجح بين الفضيلة والرذيلة
يرى أفلاطون بأن جميع الفنون الارتقاء بالإنسان إلى أنقى وأصفى منزلة، كون الموسيقى في الأرض انعكاسًا لعالم المُثُل. وعلى هذا واعتبر أفلاطون الموسيقى بأنها “قانون أخلاقي” وأن دورها لا يقتصر على الجانب الحسي المعني بالطرب بل يتعدّاه إلى دور تربوي سحري يُعنى بتهذيب خلق الإنسان من خلال دعم العنصر الفاضل في الإنسان أو زيادة ميله إلى ارتكاب الرذائل. هل الموسيقى تؤثر على الأخلاق وتشكلّها؟ أم أن الأخلاق هي التي تؤثر على الموسيقى وتتجلّى فيها؟
صنفّ بعض الفلاسفة الموسيقى بالخطورة كونها تثير – حسب نوعها – مشاعر دفينة في كل جانب من جوانب شخصية الإنسان، فتحاكي فيه الرقة والعنف والعذوبة والغضب والتسامح الخ وتضاعف المشاعر الموجودة فيه أصلًا، وإن كانت مختلة. ولذلك تم وضع ضمانات تكفل استخدام الموسيقى لأغراض تلائم القيم الفاضلة، بينما اعتبرها البعض تابو ببساطة.
إن كان للموسيقى هذا الدور المهم في سلوك الإنسان وأخلاقياته فماذا تقول موسيقاك عنك؟ وهل تقتصر الموسيقى في الألحان التي نسمعها؟ ماذا عن صوتنا؟ هل يمكننا اعتباره نغمًا؟
صوتك هو دساتينك
حاول الإنسان منذ القدم أن يعبرعن نفسه من خلال صوته، فجاء الصوت محاكياً للنفس البشرية في جميع أحوالها ومشاعرها، بل إن أحد تفسيرات نشأة اللغة جاءت عن طريق المحاكاة الصوتية للطيور والحيوانات والطبيعة من حولنا، ويعتقد الباحثون أن الترنم هو اللبنة الأولى في تهيئة حبالنا الصوتية للكلام.
لم يخفى أهمية الصوت ونغمته – كونه أعم من الكلام – على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام عندما قال: ” أرحنا بها يا بلال” لينادي المسلمين بقيام الصلاة بأفضل الأصوات وأكثرها عذوبة وعندما قال في الحديث الشريف “زينّوا القرآن بأصواتكم”. كما يزخر القرآن الكريم بإرشادات متنوعة عن أثر الصوت في التعاملات بين الناس ومع الله أيضًا مثل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) و (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) و (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ).
يشير نيدو كوبين في كتابه “كيف تصبح متواصلًا جيدًا” بأن 38% من فعالية التواصل هي من طبيعة الصوت وإتقان معرفتها. فنحن نستطيع أن نتكهن بمشاعر الإنسان وأحواله فقط عبر نبرة صوته في سلك الهاتف. ألم تخمن ما إذا كان المتصل يبتسم أم لا من وراء الهاتف؟ أو فقدانه لأعصابه تدريجيًا مع علو صوته وتسارع كلماته؟ أم عبارات الحب والشوق التي لا يمكن أن تُقال إلا بالهمس؟ إذًا نستطيع أن نقول بأن الصوت يشبه الموسيقى كونه مُظهرًا للذات، متغير طبقًا لحالتنا الشعورية.
وبما أن عملية التواصل لا تنجح إلا بطرفين وأكثر، هل يمكننا أن نقول أن أصواتنا عند الحديث مع بعضنا البعض تنتج سيمفونية؟ وهل جميع تواصلنا الكلامي موسيقاه جميلة؟
أنتَ لحني
“لكل مزاج وكل طبيعة نغمةٌ تشاكلها ولحن يلائمها”. هذا ما قاله إخوان الصفا وخلان الوفا في الرسالة الخامسة الخاصة بالموسيقى، الأصوات هي نغمات وامتزاجها يؤدي إما إلى القبول أو النفور، إن تنافرت أنتجت إيقاعًا متضاربًا يفسد المزاج ويخرج عن الاعتدال، وإن تآلفت كوّنت لحنًا جميلًا ملئ بالمودة والرحمة والسكينة يؤدي إلى تعزيز التواصل بين الناس ورفع كفاءة التواصل في المجتمع كمنظومة واحدة متكاملة.
هل استطاع الإنسان في العصر الحديث أن يحافظ على سكينة صوته وسط هذا الكم الهائل من الضوضاء التكنولوجية؟ هل تأثرت علاقاته الاجتماعية ومحيطه؟ هل يسمع صوته؟
صخب العالم الحديث
أدت الزيادة في الأصوات الناشزة اليوم إلى حصر معنى الضوضاء في أصوات عالية فقط تحدد حدودها المسموح بها بالديسيبل. بينما في السابق كانت الضوضاء تعرّف بأنها أي صوت غير موسيقى أو غير منسجم.
عندما نقارن بيوتنا اليوم بالماضي، نتذكر تمامًا استماعنا إلى الأصوات التي يصدرها البيت حتى عندما يكون خاويًا، وكأنه يتنفس بحياة خاصة به، صرير الأرضيات، خرير المياه، وحفيف الشجر. بينما سعى الإنسان الحديث اليوم للهروب من مظاهر الطبيعة في بيته من خلال تغليف نفسه في بيئات اصطناعية مثل السيطرة على البحر في النافورة وترويض الرياح في مكيف الهواء وإضافة ما يسمى بالضوضاء البيضاء أو العطر الصوتي وهي تقنية إخفاء الصخب بترددات أجهزة أخرى (مثل صوت التلفاز لعزل أصوات البيت المجاور).
هذه الضوضاء المحيطة بنا – وإن كانت غير مسموعة – قطعت الحبل الممتد بين السماء والأرض وتلاشت النماذج الطبيعية التي نستمد أصواتنا منها تدريجيًا، وأصبح الإنسان لا يسمع حتى صوته. كيف باتت الموسيقى اليوم تتكلم لغة غير لغتها؟ من صدى لآمالنا وأحلامنا، من انعكاس تسابيح السماء إلى هذا الكم من الضوضاء؟
نحو تصميم مشهد صوتي للعالم
يزودّنا عالم الصوتيات موراي شيفر في كتابه “دوزنة العالم” بضرورة تصميم صوتي جديد، وما يعنيه بالتصميم الصوتي هو اعتبار المشهد الصوتي للعالم بمثابة تأليف موسيقي ضخم، نحن جمهورها وفنانيها وملحنيها. نحافظ على الأصوات المنسجمة ونضاعف وجودها.
المهمة الأولى لنا هي تعلم كيفية الاستماع واحترام الصمت خاصة في مجتمع مشغول وعصبي طوال الوقت. لو كان لدينا أمل في تحسين التصميم الصوتي للعالم، فلن يكون ذلك قابلًا للتحقيق إلا بعد استعادة الصمت كحالة إيجابية في حياتنا. كيف يمكن للصمت أن يساهم في مضاعفة وجود الأصوات المنسجمة؟
نحن نعتقد أننا لا نسمع شيئًا عندما لا يكون هناك صوت. لكن في الواقع، تصبح حاسة السمع أكثر يقظة وحدّة في أوقات السكون. علميًا، ليس بمقدورنا إغلاق حاسة السمع حسب الرغبة و إدراكنا للصوت هو آخر باب يغلق قبل النوم وهو أيضا أول من يفتح عندما نستيقظ. يقول ماكس بيكارد في كتابه “عالم الصمت” بأن الله سبحانه وتعالى يظهر ذاته من خلال جمال خلقه وأصواتهم مستخدمًا إياهم كلغة. “الصمت يكشف عن نفسه في آلاف الأشكال التي يتعذر وصفها: في سكون الفجر، في تطلع الأشجار الهادئة إلى السماء، في هبوط الليل، في التغير الصامت للفصول وفي صمت الروح الداخلية”. ولذلك اعتبر صمت الطبيعة صمتٌ مبارك لأنه يملأ الإنسان بالصمت العظيم الذي كان قبل الكلمة “كن” التي انبعث منها كل شيء.
المصادر
الرسالة الخامسة إخوان الصفا
جمهورية أفلاطون
الفيلسوف وفن الموسيقى فؤاد زكريا
دوزنة العالم موراي شيفر
عالم الصمت ماكس بيكارد