جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

الحب حيوات متعددة
27 تشرين الثاني
العلاقات

الحب حيوات متعددة

27 تشرين الثاني

|

العلاقات

ذات ليلة، رفعت هاتفي لالتقاط صورة للقمر، وصدف أن ظهرت في الصورة نجمة صغيرة تلمع بجواره. لفتت النجمة انتباهي، رغم أنني لم أكن ممن تشدهم النجوم عادة. لكن في تلك اللحظة، تذكرت صديقة شغوفة بها، ووجدت نفسي أعيش مسرتين: جمال القمر الذي التقطت له الصورة، وذكرى الصديقة التي أشعلتها تلك النجمة في روحي.

هذا المشهد البسيط كان تجليًا لما أؤمن به عن صدق الوداد. فهو، كما أراه، يزرع في حياتنا الواحدة حيوات متعددة، ويمنح الروح مسرات جديدة لم تكن لتوجد لولا مشاركة الحب والود مع الآخرين. عندما نحب، نهب جزءًا صادقًا منا للآخر، ونستقبل منهم شيئًا بالمقابل. وهكذا تتشكل روابط إنسانية أصيلة تعمق حياتنا.

قد يبدو هذا التأمل بديهيًا، كجمال القمر الذي نراه ونعرف أنه جميل،، لكن ما دفعني للكتابة عنه هو رأي غريب قرأته يسخف من مكانة الآخر جاعلًا التركيز على الذات أولوية حتى في العواطف وجدت نفسي أكتب هذا النص ردًا عليه، لأتحدث عن حلاوة تبادل العواطف.

حلاوة المشاركة: 

عندما نشارك العواطف والحكايا والنوايا، نرتبط مع الآخر من خلالها، فنتعارف ونتبادل الاهتمامات. وكما ننجذب لما يروق لذائقتنا، نجد أنفسنا ننجذب أيضاً لما نعلم عن أحد المقربين حبه له، فنشاركه ذلك. ولا يعني هذا الانجذاب انسلاخاً عن الذات، بل نحب لأن الآخر يحب. فهذا الانجذاب يشكّل امتداداً للعاطفة الأولى نحو من نحب، ولا يؤدي بالضرورة إلى تعدد الاهتمامات بشكل مباشر.

من خلال هذه المشاركة، تتسع مداركنا، فنكتشف الكثير مما لم يكن ليجذبنا معرفته من قبل. وهكذا، نتشارك الحب والجمال والمعرفة والحياة.

 

الحب بين مفهومين: 

عند قراءتي لكتاب قلق السعي للمكانة، لفتني شرح الفيلسوف آلان دو بوتون للحب، إذ وجدت فيه تفسيراً لما وصفته سابقاً بـ”الغريب”، وهو تسخيف الآخر. فقد كنت أؤمن أن العلاقات تبادلية، نتشارك فيها القيمة، وهو ما أوضحه دو بوتون حين وصف الحب بأنه: “نوع من الاحترام، حساسية من جانب شخص نحو وجود شخص آخر.” ثم أضاف: “إن معنى إبداء الحب لنا أن نشعر أننا محط انشغال وعناية: حضورنا ملاحظ، اسمنا مسجل، آراؤنا يُنصت إليها، عيوبنا تُقابل بالتساهل، وحاجاتنا مُلباة. وفي ظل تلك الرعاية ننتعش ونزدهر.”

ثم انتقل لشرح مفهوم الحب المعتمد على المكانة، الذي يُعد محور الكتاب، فقال: “إن من يمنحونا إياه غالباً ما يحملون قيمة ثانوية.” وهنا يكمن الفرق بوضوح! ففي الحب الأول، لكلانا قيمة أساسية.

لكن، ما هو الحب المعتمد على المكانة؟
ربما تكمن صورته الأوضح في حب الجماهير للشخصيات البارزة في المجتمع. إنه ذلك الحب الذي يتسلل إلى نفوسنا حينما نشعر بالقبول، وبأننا نحتل مكانة مُرضية في المجتمع بناءً على انتمائنا، وعدد المحبين حولنا، وماديتنا، ونجاحنا المهني، وغيرها من النجاحات التي تزرع فينا الاطمئنان نحو هذه المكانة 

وفي صورته الأبسط، يعتمد الحب المرتبط بالمكانة على التقدير الاجتماعي وليس على المشاعر الحقيقية،ورغم التشابه الواضح بين المفهومين، حيث يبعث كلاهما شعوراً بالأمان والوجود والأهمية، إلا أن الحب مع المقربين مختلف. ففيه نتبادل الأخذ والعطاء، ولا تتأثر مكانتنا بدرجتنا في أي سلم.

الخلط بين المفهومين:

ما وجدته حاضرًا في تهميش الآخر هو الخلط بين مفهوم الحب والتقدير، فعندها تتحول العلاقات القريبة إلى جمهور الشخصي، نستمد منهم الشعور بالأهمية والوجود، ونخسر مقابل ذلك جوهر الصلة الحقيقية، والامتداد العاطفي، والأمان الحقيقي الذي  لا توفره لنا أصوات التصفيق وحدها.

الأدهى من ذلك، أننا عندما نقوم بهذا التبديل، نحول الآخرين إلى أدوات لتغذية احتياجاتنا الروحية؛ نشاركهم لحظات الحزن والفرح، ثم ندفع بهم إلى الهوامش، وكأنهم مجرد وسيلة لتحقيق شعور مؤقت بالرضا.

قد يبدو بديهيًا أن العلاقات تقوم على المشاركة والتبادل، إلا أنني لاحظت مؤخرًا شيوع أفكار تبتعد عن هذا المفهوم في منشورات تدعو إلى الفردية المطلقة في العلاقات. بعضها يروج لفكرة أن العلاقات يجب أن تتمحور حول الفرد، وكأن الآخر ليس موجودًا فعليًا، فيصبح الانفصال عنه أمرًا سهلًا. وبعضها الآخر يُشيد بسرعة التخلي عن الآخرين، ويتباهى بالقدرة على إلغاء قيمتهم، وهو تصريح ضمني باستغلالهم لتحقيق مكاسب ترتبط بالمكانة الاجتماعية، دون وجود ارتباط حقيقي.

18
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

ماهية الحرية
31 تموز

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 4 دقائق
عزاء الحكايات الصوفية لإنسان اليوم
17 شباط

|

الروحانيات
وقت القراءة: 4 دقائق
عرائس «البراتز» أم هوية الجمال الحديثة
18 آب

|

الفنون والإبتكار
وقت القراءة: 16 دقيقة

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً