قد يبدو عنوان المقالة غير منطقيٍ للأذن، ربما هذا صحيح للوهلة الأولى، لكن اسمح لي بالانتهاء مما أرغب بشرحه أولًا ثم قرّر: هل هذا العالم الذي تعيش فيه، إذا افترضنا أنه العملة، يملك وجهان فقط أم عدة أوجه؟
بدايةً، علي أن أنوه أنني سأركز حديثي على الجانب التفاعلي السلوكي الإنساني فقط. إذ إنني لو بدأت بالتطرق إلى بقية جوانب حياة الإنسان، مثل اختراعاته، سياساته، قوانينه التي ابتدعها، احتياجاته، وكل ما يتصل به، فصدقني، هذا الحديث لن ينتهي أبدًا. أعني ذلك حقًا، فمن المحتمل أنني سأستمر في الحديث للأبد، متفرعة وضائعة بين أفكاري. لذا، من الأفضل أن نركز على موضوع واحد ونفصله.
هل أنت ممن يقفز لتفسير سلوك شخص ما بسرعة، ويحاول أن يبدو كعبقريٍ فهم ما وراء هذا التصرف؟ الذي غالبًا ما تكون قد فسرته بناءً على رغبة خاصة صادرة عنك، سواء كان ذلك التفسير تفاؤليًا وإيجابيًا أو سلبيًا مليئًا بالسوء؟
عمومًا، مهما كانت إجابتك لهذا السؤال، يجب أن أهنئك، لأنه على الأقل أنت تملك فضولًا واهتمامًا تجاه الأشخاص في حياتك وترغب في فهمهم، وما عليك سوى توجيه هذا الاهتمام والتصرف وفقًا للمفاهيم الصحيحة لذلك.
إن خبايا الإنسان ونفسه البشرية هي من أعقد الأشياء في هذا الكون، فحتى محاولتك لفهم نفسك ستدخلك في متاهات ومواقف وأشخاص وحتى ذكريات تتصل بماضيك البعيد لن تعرف الخروج منها. إن انهمكت بتفكيرٍ عشوائي يضخ باستمرار سيرميك بعيدًا عن هدفك الأساس ألا وهو فهم سبب شعورك هذا، في هذه اللحظة بالذات. فكيف بفهم دوافع الآخرين وأسباب تصرفاتهم؟
من الجانب الديني، فقد اهتمّ الإسلام بتوجيه النفس البشرية لحسن الظن بالآخرين، وذلك في مواضع مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…)، فقال تعالى “كثيرًا من الظنّ، وليس كل الظنّ”. فأكثر الظن غالبًا ما يكون ظن السوء بالآخرين الذي لا يقين فيه؛ الجالب للمشكلات، والمسبب للقطيعة دون تيقن بصحته. ولم ينهِ عن كل الظن، فما هو الجزء المتبقي غير السيئ؟ بالضبط، حسن الظنّ هو المقصود والمستحب، الذي به تتقارب القلوب وتتآلف.
ومن ناحية علمية، يقول هربرت بلومر، عالم النفس الأمريكي، في نظرية التفاعل الرمزي: “إن البشر يتصرفون حيال الأشياء والمواقف حسب ما تعنيه تلك الأشياء إليهم”… أي يُمكن أن يُفسر تصرفك الطيب النبيل تجاه حاجة أحدهم بمثل ما هو عليه؛ تصرّف نبيل ومبادرة طيبة، ولكن قد يُفسر بالعكس أيضًا، كأن يكون إهانة واحتقارًا لشخص المحتاج فقط لكونه افتقد المال مثلًا من حياته، الذي كان يمده بشيء من القوة والشخصية المهيمنة، وعند افتقاده، جئت أنت لتشعره بعوزه وضعفه الذي يشعر به هو بالأساس بشكل مفرط، بغض النظر عن تصرفك.
إن الإنسان في الموقف الواحد تعصف به أفكار خوفه من المستقبل وخبرات ماضيه السيئة والجيدة، وتوقعاته المستقبلية لرد الفعل المتوقع لما هو موشك على فعله، وحتى مشاكله النفسية التي من الممكن أنه لم يُبح بها، والكثير الكثير مما لا يمكن حصره. لذا، محاولة تفسير فعل أحدهم بشكل يقينيّ ومحاكمته عليه هي ضرب من الخطأ الذي لا غبار عليه، والذي بكل تأكيد سيؤدي إلى انهيار أي علاقة بين شخصين، إن خلت من التفهم ومحاولات طلب التبرير والتوضيح والإنصات.
دعونا نعود لبلومر، الذي يُكمل بأحد فرضياته: “إنَّ هذه المعاني أيضًا قد تُحور، وتُعدل ويتم تداولها عبر عمليات تأويل، يستخدمها كل فرد في تعامله مع الإشارات التي يواجهها”. تخيل! أن الأمر لن يتوقف عند تفسيرٍ سيء قد تحمله أنت أو تُواجَه به، فقد يُنقل هذا التفسير لأحدهم، ويفهمه هو الآخر بطريقة مغايرة تمامًا، وربما بطريقة تزيد الأمر سوءًا حتى. وهكذا يكون قد أصبح لديك فعلٌ واحد ومئات من التفسيرات والتأويلات التي لا تمت للحقيقة بصلة.
هذا بالضبط ما تفعله الشائعات، خصوصًا تلك التي تتطفل على أسرار الآخرين وحياتهم، فتجد نفسك في مجلسٍ يعج بالواعظين والمثقفين ومصلحي البيوت ورواد الأعمال العباقرة، الذين تعجّ حياتهم بالفوضى غير المرتبة أساسًا، وبدلًا من ترتيبها والوقوف عليها تجدهم يبدؤون بتمزيق حياة الآخرين وخصوصياتهم تحت مسمى “الإصلاح، ولا شيء غير الإصلاح”.
إن قادك حظك السيء بمحض الصدفة لأحد هذه المجالس يومًا ما، وكنت جزءًا فيها، سواء كنت الواعظ أو الموعوظ، فأنصحك حقًا بتجاهل هذا الهراء، (ولست آسفة على هذا المصطلح)، والتحامل ومجاهدة نفسك بعدم ضرب أحدهم على رأسه عوضًا عن محاولة التفاهم العقيم معه. فالكثير ممن حولك لا يتعدى مدى ثقافته نشرة الأخبار إن كان يهتم أصلًا لأحداث العالم الكبرى، أو ما يُتداول بمجلس أقربائه عن آخر فردٍ تزوج منهم وآخر مستجدات حياته.
محيط معرفي صغير لا يستدعي منك المحاربة لأجله أو محاولة تغييره حتى. فإن استطعت أن تنأى بنفسك عنه فافعل، وإن لم تستطع، فكوّن معرفتك الخاصة ونوّع دائرة معارفك وعلومك التي ستعطيك الحصانة الفكرية، التي تمنعك من الانجراف خطأً في سيل هذه التأويلات والنقاشات التي تُلهيك في البحث والتنقيب عن حياة الآخرين وتصنيفها وتقييمها من دون أدنى معرفة حول أهم الظروف التي تلمّ بهم. بل عوضًا عن ذلك، ابحث عن نفسك ومن تحبهم، وتحسس أخبارهم، وكن موجودًا لأجلك ولأجلهم مهما كان الوضع والظرف.
والآن، أما زلت تعتقد أنك تعيش في عالم بسيط يملك وجهين واضحين للحقيقة والكذب؟