شرير القصة
من هو الشرير في القصة؟ سؤال تغير جوابه مع نضوج الفكر الإنساني. في الماضي كانت القصص تفصل فصلًا واضحًا بين النور والظلام، كنّا نرى بطلًا ملاكًا يواجه شيطانًا. أخبرتنا بذلك شخصيتي المفضلة في التاريخ: أرسطو، المعلم الأول وواضع قواعد المنطق والمسرح، في كتابه(فن الشعر)أن بطل القصة لا بد أن يكون ممثلًا للقيم الإنسانية السامية، ممثلا للخير في معركته تجاه الشر، وهكذا كانت القصص في بداياتها، ثم مع تطور القصة عبر الأسطورة ثم المسرح ثم الرواية ثم الفيلم إلى أن وصلنا إلى المسلسل، بدأ يشتبه على المشاهد من الملاك ومن الشيطان، إذ بدا أنهما اتحدا تحت مسمى البطل المضاد (Anti Hero) في قصص لا تحصر. ويظهر أن هذا مؤشر على أن البشرية في رحلتها الجمعية قد وصلت إلى نتيجة جديدة: أن حقيقة الشخصية التي كنا نعتبرها شريرة، هي في الحقيقة شخصية بطل في قصة لم يروِها أحد!
إظهار الأشرار على أنهم أبطال قد يبدو فعلا شريرًا في حد ذاته، لأننا نتعاطف مع المجرمين ونجعل من شخصياتهم رموزًا ونرتبط بهم عاطفيًا إذ نكسو أفعالهم المشينة ببعض الشاعرية. بهذه الطريقة يبدو وكأننا نتحدى منظومتنا الأخلاقية التي تنجح في كثير من الأحيان في فصل الخير عن الشر، فهناك أفعال لا يقبلها كل ضمير وقانون ودين ومصلحة، إذا ما حاجتنا لإضفاء الشاعرية على الشر؟! ألا يكفي أن نشجبه فحسب؟
من ركل القطة
هنا دعني أحكي لك أقصوصة (من ركل القطة) الخيالية، والتي يسهل إسقاطها على أحداث الحياة، ثم نحللها ونحاكم الشر الذي بداخلها.
- مدير تراكم عليه العمل حتى تضجّر، فاستدعى السكرتيرة لتقوم بتسليم بعض الأوراق، تأخرت، فوبخها توبيخا شديدا
- سكرتيرة مشحونة من غضب مديرها، سلمت الأوراق إلى مسؤول قسم الصيانة بطريقة فجّة، استنكر المسؤول فأهانته
- مسؤول قسم صيانة ممتعض من قلة التقدير، أنهك موظفيه بساعات عمل طويلة، حاول موظف أن يستأذنه، فأصر عليه بالبقاء
- موظف يصل متأخرًا إلى مدرسة ابنه وهو منهك، شكا ابنه حرارة الشمس وهو ينتظر، فصاح عليه والده: التزم الصمت!
- طفل غاضب من تعامل والده غير المنصف، أتت قطته لتداعب قدمه، فركلها من فرط الانزعاج
هذه القصة القادمة من الثقافة الغربية، المتداولة في أوساط التنمية البشرية، تشجب بوضوح ما فعله المدير، وأنه هو المتسبب في ركل الطفل للقطة، أي أنه هو من ركلها. لتكون هذه القصة دعوة لنا لنضبط أعصابنا ولا نصبح مثل ذلك الشرير. لكن منطق هذه القصة يُفسد رسالتها، ففي القصة بدأت السلسلة من المدير، أما في الحياة فالسلسلة لا تبدأ من نقطة محددة، فهذا المدير لم يخلق شره من العدم، وإنما استمده من حدث ما قبله. بعبارة أخرى نستطيع أن نطرح السؤال (من ركل المدير؟) وهكذا يتحرك إصبع الاتهام، فينتقل من شخص فشخص فشخص حتى تكلّ اليد من طول أمد المد.
الـبطل المضاد العربي
ماذا عن ثقافتنا نحن العرب، عندما ننظر لسلسلة الشرور، هل هي تمتد للخلف مثلما حدث في قصة (من ركل القطة)؟ على نحو غريب، الإجابة هي غالبًا: لا، بل تمتد إلى الجانب الأيسر! تستغرب؟ هذه أمثلة:
- أنتم إخوة لماذا حدث بينكما هذا الشجار؟
- نحن كذلك، نزغنا الشيطان فاقتتلنا
- نعرفك صادقًا، ما الذي جعلك تختلق هذه الكذبة؟
- بالفعل، لكن وسوس لي ذلك الخبيث
في ثقافتنا: الشيطان الذي يوسوس وينزغ ويدخل بين الأشخاص هو المصدر لسلسلة الشرور. في ثقافتنا الشيطان هو من يركل القطط، ولعل البطل المضاد في عالمنا هو البطل الذي لا ينسب شره للشيطان.
كلا النظرتين: إحالة الشر محليًا للشيطان، وإحالة الشر عالميًا تجاه السلسلة الممتدة، لا تعطيان الإجابة الشافية لحل المشكلة. هذه السلسلة تمتد، فالشيطان لا تستطيع أن تمسكه وتوبخه، ولا سبيل لك في العودة بالزمن وإيقاف الشخص الأول عن ارتكاب الفعلة التي أطلقت سلسلة الشرور، إذن هل نترك الشر متفشيًا في سلاسل ممتدة في كل اتجاه؟
الإدراك كعلاج
قصة البطل المضاد هي التشخيص. إدراك أننا جميعًا ذلك البطل المضاد هو العلاج. معرفة أننا جميعًا متورطون في سلسلة الشرور بنفس القدر من التورط يجعلنا نتخفف من نظرتنا نحو أنفسنا كضحايا مجتمع. بعدها يمكن أن يأخذ المرء زمام المبادرة كمسؤولية فردية في محاولة إيقاف هذه السلسلة. تبدو هذه المسؤولية الفردية هي ذاتها عبر عنها كارل يونغ في قوله: “إن ألدّ أعدائك قابعٌ هناك في أعماق نفسك“، والإنسان بين شعور الاستحقاق العالي النابع من كونه الضحية، وشعور المسؤولية المفرطة النابع من كونه مبادرًا، أربعة أنواع:
- جماد
- تاجر
- ملاك
- شيطان
الأول جماد، لا مستحق ولا مسؤول، خارج عن المعادلة، لا يُصلح أو يُفسد. إنه منعزل يعيش بعيدًا عن سلاسل الشرور الخاصة بالناس. وهذا رغم نمط حياته الفريد غير المتناسق مع طبيعة الإنسان الاجتماعية، إلا أننا لن نعتب عليه، فنحن لا نأبه به وهو لا يأبه بنا.
الثاني تاجر، مستحق ومسؤول، يفيد ويستفيد، يضر وينفع، يتأثر بالسلسلة ويؤثر عليها. يدرك أنه ضحية، ويدرك أنه المتسبب أيضًا في كون الآخرين ضحايا. يؤثر الإدراك في تخفيف ردود أفعاله فلا يبالغ في تلك الردود. يفهم الأشرار ويتعاطف معهم، وكذلك يعاقبهم لا تشفيّا وإنما لصنع الرادع الكافي لإيقاف السلسلة. إن واقعيته تسمح له إن اضطرته الأحداث أن يلعب دور البطل المضاد في حالات الضرورة.
الثالث قديس، لا مستحق لكنه مسؤول. لا يرى نفسه ضحية أبدًا. يؤمن أن كل ما يحدث له تحت مسؤوليته. إن أصيب بضرر من أحد يقوم بمراجعة نفسه ويحاسبها على أنه هو السبب. إن تعامل مع أحد حرص على أن يعطيه أفضل ما يمكن أن يقدمه. ممتلئ بالحب ورغبة العطاء تجاه الجميع، ويرى أن ارتكاب الشرور أمر غير مبرر على الإطلاق مهما كانت حالة الجاني.
الرابع شيطان، مستحق ولا مسؤول. في يده مجهر نحو سلسلة الشرور خلفه. يدرك كل الخطوب التي تسببت في معاناته. في عالمه المظلم الجميع ساهم في مصيبته، ولديه حجج مدعمة بالأدلة القوية لإثبات ذلك. إنه ممتلئ حقدًا وامتعاضا. لا يحمل أدنى قدر من المسؤولية، ولو حملها فستكون موجهة نحو رغبته في الانتقام من الجميع ليذوقوا بعض ما ذاقه من ألم.
لكن أن تكون تاجرًا يعني أن تتزن! أن تتعاطى مع المسؤولية كثمن تدفعه، ومع الاستحقاق كمكسب تجنيه، ويكون هذا هو العقد الاجتماعي بينك وبين الجميع. هكذا تقصر سلاسل الشرور. أما إن حاولت لعب دور الملاك ولم تر لنفسك استحقاقًا، فمثلك كمن فتح متجرًا للناس وجعل بضاعته بالمجان، وعندما أتى صاحب الأرض يطالب بالإيجار، أدرك أن دور الملاك لا يليق به، فامتعض وسخط وتحول شعوره بالمسؤولية المفرطة، إلى الاستحقاق العالي.
وهذه هي طريقة الطبيعة الإنسانية في معاقبة من يرتدون رداء الملاك على جسد الطين، إدراكك أن هذا الرداء لا يناسبك، يقيك من الوقوف أخيرًا في صفوف الساخطين.
عن البطل المضاد
استوقفتني مقولة نطق بها البطل الشرير في فيلم The Usual Suspects يقول: ”إنّ أعظم خدعة مارسها الشيطان على الإطلاق هي إقناع العالم أنه ليس موجودا“ لكنها غير دقيقة تمامًا، العبارة الأدق هي: إن أعظم خدعة مارسها الشيطان على الإطلاق هي إقناع نفسه أنه لا يمكن أن يكون شيطانا.