جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

حاطب ليل
22 تشرين الأول
الأدب والفلسفة

حاطب ليل

22 تشرين الأول

|

الأدب والفلسفة

حلّ الليل وسكنت الأصوات، لكن لم يعد هناك من ينام بسلام واطمئنان. تحوّل الليل من موعد للراحة والسكون إلى محكمة، القاضي فيها هو أنت، والمذنب هو نفسك. تراجع كل جملة وكلمة نطقت بها، وتغرق في دوامات الندم واللوم. تتمنى لو كان بالإمكان محو جميع ما قلته بتسرع ودون تفكير من ذاكرة الآخرين. لكن للأسف، الكلمة حين تخرج لا تعود. ويبقى السؤال الأهم: متى سنفكر في الكلمة قبل أن ننطق بها، وليس بعدها؟ متى وكيف سنتقن الصمت وآداب الكلام؟

السينما الصامتة

ماذا لو عدنا إلى عام 1902 وافتقدنا تقنية دمج الصوت مع الصورة، ولكن في الواقع؟ كيف ستكون حواراتنا ونقاشاتنا التي غالبًا ما تنتهي بالندم على ما قيل والحسرة على ما كان يمكن أن يُقال؟ كنا سندرك أهمية الاستماع بحواسنا، والتركيز في التفاصيل لفهم المشهد كاملًا، والأهم من ذلك هو الصمت، ومنح الفرصة للطرف الآخر لإكمال مشهده. وإلا فلن نستطيع فهمه بشكل صحيح. إذا لم نفكر مليًا في كل ما نسمعه، فلن نتمكن من الرد عليه بما يناسبنا. والأسوأ أن نبدأ بالكلام دون أن يجتاز حديثنا محطة الوزن والتفكير. ما الذي سنجنيه من تلك المحطة؟

بعد دراسة الفلاسفة القدماء وأفكارهم عن الفضائل المطلوبة لتكوين الرجل المثالي، أنشأ بنجامين فرانكلين قائمته الخاصة المكونة من ثلاث عشرة فضيلة، وحاز الصمت على المرتبة الثانية بعد “الاعتدال”. يقول فرانكلين: “لا تتحدث إلا بما قد يفيد الآخرين أو نفسك؛ تجنب المحادثة العبثية”. يضفي الصمت وقارًا وهيبة على صاحبه. ولذلك قال الإمام علي: «بكثرة الصمت تكون الهيبة»، وقال: «إذا تم العقل نقص الكلام». فكثرة الثرثرة قد تكشف خواء صاحبها، أما المليء بالخبرة أو العلم، فهو ينتقي من يستحق أن يكسر من أجله طوق صمته.

أنواع الصمت الثمانية

في سبتمبر 2017، استيقظ مدير أبحاث علم الأعصاب في المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية ومؤلف كتاب “الدماغ والصمت”، ميشيل لو فان كوين، ليجد نفسه مصابًا بشلل مفاجئ في الوجه. أشرف لو فان كوين على دراسة علمية تسلط الضوء على مزايا الصمت، الذي ساعده بشكل كبير على الشفاء من الشلل. ويوضح قائلاً في هذا السياق: “عندما أُجبرت على الصمت، أدركت فوائده. إنه يسمح للدماغ بتجديد نفسه واستعادة وظائفه المعرفية”، مشيرًا إلى ثمانية أنواع من الصمت المفيد للدماغ والجسم تحدث عنها في كتابه.

من وجهة نظره، هناك “الصمت الجسدي” وهو تدريب الجسد على البقاء ساكنًا دون أي حركة، و”الصمت الصوتي” الذي يحررنا من إدمان الصخب ويقينا من التلوث السمعي، و”الصمت المتعمد أو الاختياري” وهو التوقف عن استخدام الشاشات التي ترهق أذهاننا. كما تحدث عن “صمت الخيال”، وهو إسكات تركيزك والسماح لأفكارك بالانجراف، و”صمت الاستماع” وهو القدرة على إيجاد الرد المختصر المناسب للسؤال. أما “صمت العيون” فهو العودة إلى الذات عن طريق القراءة وتأمل الفنون، و”صمت التأمل” الغرض منه تطوير الوعي والتركيز بهدف تنمية الصفات الفردية. وأخيرًا، “الصمت الذاتي”، وهو صمت التصوف الذي يسعى إلى تحقيق حالة عقلية قد تبدو متناقضة، فهو يهدف إلى الحفاظ على عقل هادئ، ولكنه يظل يقظًا بشأن حالته الداخلية وما قد يحدث في البيئة.

تكلم صمتًا 

قول وليم هنريت: “الصمت فن من فنون الكلام”. ومن يبلغ النضج العقلي والحكمة الكافية من البحث والخبرة “تكلم صمتًا”. أوضح الدكتور إيهاب فكري، الخبير في علم الإدارة، أن هناك نوعان من الصمت: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي. النوع الأول هو المطلوب، حيث يمنح صاحبه الفرصة للاستماع إلى المتكلم، واكتساب الخبرات، والاستفادة من علم ومعرفة الآخرين. في المقابل، نجد الصمت السلبي، الذي غالبًا ما يكون نتيجة قلة الثقة بالنفس؛ فلا يتحدث الشخص خوفًا من الهجوم عليه، أو حفاظًا على نفسه حتى لا يقول شيئًا غير مقبول فيسخر منه الآخرون. هذا الصمت السلبي ضرره أكبر من نفعه، فقد يؤدي بصاحبه إلى السكوت عن الحق، وقد يجعله شخصًا ضعيفًا وهشًا، منبوذًا من نفسه ومجتمعه.

بالتأكيد، سيتجاوز هذا الشخص مرحلة الخوف والقلق من إبداء رأيه في نقاشات معينة، لكنه لن يتجرأ على المطالبة بأبسط حقوقه خوفًا من الرفض أو السخرية. وسيفقد العديد من الفرص بسبب خوفه المستمر من نظرة الآخرين. في النهاية، مجالسة ثرثار لا يصمت أو شخص لا ينطق أمرٌ لا يُطاق.

وأخيرًا، ما دمت حيًا، لا يزال بإمكانك إصدار حكم حازم ورفع الجلسة إلى الأبد. لا تسمح لنفسك بخلق أعذار تعيقك عن التقدم والتطور. الحلول كثيرة وواضحة؛ انظر إلى الصورة الكبرى، وتجاوز النقاشات العقيمة. وفر بريق سيفك لمعركة تستحق، وخذ وقتًا أطول في تأمل الأحداث والتفاصيل الصغيرة. انتبه لكل ما لم تتح لك فرصة ملاحظته بسبب نمط الحياة المتسارع. وتذكر دائمًا أنك لست مضطرًا لشرح وتبرير كل صغيرة وكبيرة في حياتك للآخرين. ترفع عن ضجيج الناس، فكما قال الإمام علي بن أبي طالب: «لا تدع جهل الناس بك يغلب علمك بنفسك».

27
0
اشتراك
تنبيه
guest

1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

كيف نحتفي بالمبدعين؟
15 كانون الأول

|

المال والأعمال
وقت القراءة: 8 دقائق
حقيقة أحلامك
5 تشرين الثاني

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق
أزمة الشعور باللاّجدوى وانعدام القيمة
26 شباط

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 8 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً