في عصر التقنية و الإشباع الفوري، ما هي القيمة المتبقية للعلاقات المستدامة؟
غلاف النسخة العربية من سلسلة السيولة لـ زيجمونت باومان
في سلسلته السائلة تحدث باومان عن عصر يمتاز بالسرعة،
ما أريده يحدث الآن و فورًا و ما لا أريده يمكنني الاستغناء عنه و هذا السلوك الاستهلاكي تطوّر في البداية مع الثورة الصناعية و التطوّر المتسارع في التقنية حيث لا يمكنك اقتناء جهاز أو مركبة إلا و جاء ما هو أحدث و أكثر تطورًا و بريقًا. الخطاب التسويقي أجج هذا السلوك لدى الفرد حتى أضحت الكماليات ضرورات مُلحّة في لمح البصر بعد أن نجح التسويق في جعلها جزءًا لا يتجزأ من اكتمال الذات ما يؤدي إلى اهتزازها بمجرد عدم الحصول على هذه الكماليات. ينتقل هذا السلوك إلى الحُب – و هو وصف جامع للعلاقات في كتاب باومان – ليصبح سائلًا حيث انتقلت صفة الاستغناء و البديل السريع من المقتنيات إلى العلاقة العاطفية حتى أصبحت بدورها مجرد شيء من هذه المقتنيات التي يجب أن تلبي احتياجات الفرد بشكل مستمر دون أن تطلب منه شيئًا في المقابل وإلا فالبديل حاضر و الاستغناء ممكن. يُعزز ذلك الخطاب التسويقي مرة أخرى لكن في هذه المرة تسويقًا للذات و أنانيتها، حيث لا يخفى على أحدنا انتشار خطابات الاستغناء و الوفرة التي و إن كانت ضرورية في حالات إلا أنها تتحدث في أحيان عن وفرة ظاهرية لا وجود لها في الحقيقة، أنا أستطيع استبدال شريكي بمجرد أنني رأيت علامات حمراء أو أن الإشكالات بيننا تتكرر؛ لأن الإصلاح لم يعد خيارًا كما يذكر باومان في كتابه بل أننا في زمن قطع الغيار:الإشكال أن هذا الخطاب لم يراع طبيعة العلاقات و اختلافها الجذري عن كل ما نتملكه من مقتنيات حيث أنها علاقات ذات منفعة تبادلية نبذل من أجلها و نأخذ منها، أما إن كُنّا سنستبدل رفيق الطريق مع أول منحنى، فمعنى ذلك أننا نحتاج إلى رفيق جديد لكل طريق مستقيم ثم نستبدله مجددًا عند كل منحنى. و هذا لا يعطي القيمة المرجوّة من العلاقة العاطفية ولا تتحقق المرتبة الثانية في هرم إبراهام ماسلو للاحتياجات النفسية و هي احتياجات الأمان و جزء منها الأمان الأسري. في السابق كان المرء يحصل على هذه العلاقة المستدامة دون كبير عناء لأنها النمط الدارج للعلاقة و لعدم وجود مشتتات تعكّر صفو العلاقة من خارج البيئة المحيطة، إنما الآن أصبح الحصول عليها مهمة شاقة تتطلّب أن يكون المرء بصيرًا بعلاقته بالكامل، و أن يتفهّم أن النقص حاصل في كل علاقة و أن يستجلب اللحظات السعيدة عندما تأتي اللحظات التعيسة، العلاقة المستدامة تتطلّب تكبير دائم للمحاسن و تصغير مستمر للمساوئ إلى الحد الذي تقبله كرامة الإنسان بلا شك. لكن من يعتمد في تحديد مقدار الكرامة التي يجب الحفاظ عليها بناء على ما يتم تسويقه في خطابات الاستحقاق فلا أظنه قادرًا على تحصيل علاقة مستدامة. إن القيمة المتبقية لهذه العلاقات في هذا العصر السائل الموحش أنها حصن عن الشعور بالوحدة، ولعل ذلك ما يعنيه ماسلو في هرمه عندما جعل الأمان الأسري جزءًا من احتياجات المرء النفسية. ولا أظن عاقلًا يتسلل إلى عقله الشك في أن العلاقات المستدامة أكثر أمانًا من استبدال الأشخاص، إنما الحصول على هذه المنفعة يتطلّب تفهّم أن العلاقة العاطفية المستدامة أشبه بخطة بعيدة المدى لحياة أكثر صحيّة للفرد و عائلته و للخطط الاستراتيجية ثمنها الباهظ الذي لا يتماشى مع ثقافة الاستغناء و الاستبدال و السيولة.استبدل و أكمل حياتك فأنت تستحق من يقدرك!