جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

إدمان‎ ‎الاقتباسات
23 كانون الثاني
النفس والعاطفة

إدمان‎ ‎الاقتباسات

23 كانون الثاني

|

النفس والعاطفة

كل اقتباس هو كتابة ثانية

كما يقول كيليطو، واختيار المرء قطعه من عقله كما يخبر الجاحظ، فالإقتباس ليس مجرد نقل للفظ منسوب؛ بل له علاقة بذوق المقتبس وعلمه ،و إشارة لدقة فهمه و جمال احساسه، لكن الغريب أنك تلاحظ أن هناك اقتباسات لكلمات عادية فقط لأنها منسوبة لكاتب كبير أو فيلسوف.

فهناك اقتباسات لعبارات لاتحمل مضمونًا لافتًا ولا بلاغة استثنائية ولا معنى فريد، كل مافي الأمر أنها مذيلة بأسماء كبيرة، مثل: تولستوي أو ديستوفسكي و غيرهم، وهذا أجده يزداد انتشاراً مع الوقت، فيما يتم إغفال عبارات بارعة وكلمات فريدة؛ لأن قائلها ليس له ثقل أو ليس من مشاهير الكتّاب.

لماذا بات الناس يفضلون الاقتباسات ويستعينون بها؟

تغريدة قديمة لعمر دافنشي كنت قد قرأتها منذ مدة طويلة جعلتني أتسائل: لماذا بات الناس يفضلون الاقتباسات ويستعينون بها في حواراتهم ونقاشاتهم؟ و البعض قد يكون مأخوذًا بها وإن لم يفهم ما تعنيه حقيقة معانيها، فقط لأنها تحمل اسم كاتب مشهور.

وكيف للإسم كل هذا التأثير على المعلومة المنقولة، وهل هذا أمر طبيعي؟

يعود سبب تفضيل الناس للاقتباسات وحب تداولها والاستعانة بها في النقاشات وغيرها إلى وهج الفقرة القصيرة، وهذا الوهج يحدث لأسباب، منها:

  1. البساطة وعدم التركيب، فلا تحتاج لكد ذهن ولا تفكير طويل، وهذا يناسب المزاج العقلي العمومي.

  2. اعتمادها كثيرا على الالفاظ، مثل المفارقة والرنين الجرسي.

  3. سهولة تداولها عبر شبكات التواصل، تويتر خاصة روجت لهذا النوع من الفقرات بشكل مسرف.

  4. إيهامها بالخلاصة، لاحتوائها على القطع والتركيز وإهمال الاستثناءات والنقد المضاد.

  5. أنها تمنح صوتا لمن لا صوت له مناسب، بالضبط كما تفعل الأبيات الشعرية والأمثال الشائعة.تقدم للمستهلك صيغة لغوية تفسر او تبرر او تعقلن او تسهل او تقوي أفكاره.

أما بالنسبة للإسم وتأثيره على المحتوى المنقول فيعود ذلك بسبب : “الهالة” التي تخلقها السمعة فتجذب الناس وتجعلهم يؤيدون جل ما قد يقوله هذا الشخص، وهذه طبيعة بشرية، فهم يكتبون أي جملة ثم يضعون بعدها: الشقيري، الشعراوي، ابن القيم؛ لتطير الجملة في الآفاق, أكتبها نفسها بغير اسم لن يكون بها الاحتفاء الكبير.

وأظن لذلك اسباب متعلقة بأمور، منها:

  1. طبيعة البشر في حبهم للقدوة أو الأسوة أو “الآيدول” بحيث يتبعونه بشكل واعٍ أو لا واعٍ

  2. عدم قدرة كثير من الأشخاص على التوثق من المعلومة فإذا كانت باسم من يثق به ارتاح لها ولم يتعب نفسه في التأكد من صحته، جرب وضع اي معلومة فيزيائية وبعدها اسم آينشتاين، سيرتاح القارئ لصحتها ولا يسأل عنها مهما كانت غريبة.

  3. حب الشخصيات المشهورة يورث حب كلامهم.

  4. في حالات الخصومة أو الجدل ذكر اسم شخص مشهور كفيل بقلب الجدال لصالح من ذكره لذلك يحب الناس الاستشهاد بهم.

  5. عدم قدرة كثير من الأشخاص على تفكيك المعلومة أو العبارة ونقدها ،وعدم قدرته على التحقق منها يجعله بحاجة لاحد يسلّم له بها.

  6. بعض الأشخاص لا يملكون الفكرة، ويمكنك أن تقنعهم بالفكرة وضدها معًا لخلو بالهم من تجريدها والنظر فيها؛ بالتالي يكون إقناعهم بذكر فلان الذي يحبون أيسر بكثير من المجردات.

وبينما كنت أدون ذلك استحضرت موقف حدث مع الغزالي أثناء خلوته في الجامع الأموي حين أجاب على أحد المستفتين إلا أنه لم يقتنع بإجابته لأنه لم يكن؛ يعلم أنه الغزالي، فتبين لي أن الناس حقيقة يتأثرون بالمظهر  وكثير ما يعتمد قبلوهم للأمر على “القائل” لا “القول”، وقد ألمحَ القرآن الكريم لهذا المعنى، قال تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ﴾.

إذاً الأمر طبيعي جداً وللهالة أهمية وتأثير كبير، ولكن؛ ماذا لو جردنا الفكرة من أصحابها وإن كان ذلك صعبا، أعطينا لأنفسنا القدرة على التمحيص والتقدير.

يقول مالك بن نبي: إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص نحرم أنفسنا من الفكرة الجيدة حين تأتي من الضد، ونتورّط في الفكرة السخيفة طالما جاءت من صديق.

فهل نستطيع ؟

التعلق بالماضي 

من دأب الإنسان أنه لا يفتأ عن تذكر ماضيه والحنين إلى تفاصيله وما يحتفظ به في أدراج الذاكرة من لحظات وأماكن وأحوال وأشخاص صادفهم او عاشهم في حياته فلولا ذاكرة الماضي لما نمت داخلنا اي خبرة او عبرة او استدراك لنعمة، وبرغم أن الماضي في حياة الكثير منا لم يكن وردياً وخاليًا من المتاعب كما يتصور أغلبنا تحديدًا كلما تقدم به العمر وبدأ الشيب يغزو راْسه، أو باعدت الأيام أو فرقت الأقدار بينه وبين من كانوا جزءاً أصيلاً من مخزون ذكرياته.

إنه الحنين إلى الماضي الجميل ذلك الشعور بالإطمئنان، الذي يغمرك عندما تذهب لبيتك القديم أو تقلب أوراق ذكرياتك أو تطالع صورك مع الأهل والاصدقاء وتسترجع شريط الذكريات وكيف كانت حياتكم اليومية في المدرسة والشارع والجامعة، وكيف كانت وكيف أصبحت عادات الناس وأخلاقهم، كل منا يحن لتلك الأيام زمن الطفولة والشباب الخالي من المسؤلييات والمخاوف كل يراها أيام دافئة في عمق العلاقات بين الأهل والاصدقاء والجيران.

هل تعلم أن الحنين الى هذا الماضي له أصل علمي، فلا أحد منّا خاصة من تقدم به العمر لا يتمنى استرجاع لحظة سعادة تهون عليه متاعب حاضره، و هذه الحالة تسمى: “النستلوجيا”.

فالنستلوجيا حالة عاطفية يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وطرد اللحظات السلبية، وأن نسبة ٨٠٪ من الناس يشعرون  بالنستلوجيا مرة على الأقل أسبوعياً، وهي مهمة للحفاظ على صحة الانسان العقلية والنفسية؛ لانها تعتبر آلية دفاع يستخدمها العقل ليعيد توازننا خاصة في حالات الملل، و الألم بسب نكران الجميل أو الشعور بالوحدة وخاصة لكبار السن.

ولكن هذه الفائدة قد تتحول الى سلوك ضار .

عند الاسراف بالحنين والتوقف عند هذه المشاعر الناستولجية، التي بدورها قد تؤذيك وتعطل حياتك وتدخلك في دائرة التلعق التي من شأنها تحويل تلك الذكريات من و وقود دافع  لحياة جيدة الى وقود حارق تلتهم ناره جمال حاضرك .

فالتعلق كما يفسره علماء النفس شكل من أشكال الخوف ونوع من قلة الاستحقاق وقلة المسؤلية بحيث يلقي المصاب مسؤلية سعادته على الطرف الاخر، وهذا يحدث دون وعي من الشخص عادة ، و أيضا هو التمسك بالشيء بقوة او كما تعرفه الكاتبة ترش ترافس مؤلفة كتاب لغة القلب:

أن التعلق بصورة أوسع هو أن الشخص المتعلق لا يستطيع الاعتماد على نفسه أو الاكتفاء بها بل يميل بالتعلق المرضي بغيره وتكون سلوكياته وافكاره متمركزة حول شخص اخر أو شيء آخر او مادة إدمان معينة.

مادة إدمان ؟

داخل أدمغتنا جهاز اسمه جهاز المكافأة وهو المسؤول عن شعورنا بالنشوة وحتى وقت قريب بدأ الناس يدركون انه ليس فقط “الادوية والمخدرات” هي .من تؤثر على هذا الجهاز،بل حتى عاداتنا وسلوكنا وطريقة تفكيرنا لها تأثير كبير على هذه المنطقة.

فحين تمنح مشاعرك مجال بينك وبين شخص آخر أو شي ما  يبدأ يدخل عنصر الخيال فتتخيل أنك تلتقي بالشخص او استعدت مافقدته، حينها يفرز بالدم عدد من الهرمونات ومن أكبرها وأهمها هرمون الاكسيتوسين.

وغيرها من الهرمونات المفرزة هي التي تجعل حالة الإدمان تحصل، وبالتالي حين يختفي مثير هذا الهرمونات هذه، يحصل للشخص المتعلق أعراض الانسحاب مشابهة للتي تحدث لمدمني المخدرات، فتظهر الأعراض الانسحابية بالدم وتؤثر بالحالة النفسية على الشخص، وهذه الأعراض غالباً تستمر إلى أقصى حد ستة أشهر ثم تختفي، لكن الشخص المتعلق والذي لا يتوقف عن التفكير بماضيه بشكل دائم ومعيق هذه الأعراض ستبقى حتماً معه حتى تبدأ بعرقلة نظرته لحاضره و للحياة وللمستقبل!

هذه الحالة عادة تصيب الشخص دون وعي منه، وهو شعور مؤلم جداً، وأدرك حجم المعاناة التي يشعر بها الشخص المتعلق وأن الحياة بالنسبة له في أوقات كثيرة تفقد بريقها وألوانها فتصبح بعينه رمادية، حتى يذوي شغفه في ممارسة اي شيء كان يستمع به، ويفقد الرغبة في استمرارية الحياة والوهم والتعب والخمول.

أدرك تماما أن تراهن على مكان ما وتنكسر منه، ألم السقوط بالذات بعدما اتكأت كلك فيختفي أو تفقد الذي أسندت نفسك عليه، أدرك شعور الحزن الذي قد يظهر لك من وقت لآخر بسبب مشاعر الاغتراب جراء الحياة العصرية بطابعها السريع في التقدم والتغير بكل الاصعدة من حولك، وهذا أمر طبيعي لأن الإنسان بطبيعتة يرتاب من التغير و الحركة السريعة ويستريح أكثر لما هو بطيء وباقي لديه ومستدام، كلٌ لديه قصة مع التعلق فهو أمر فطري يحدث منذ مراحل الطفولة ومراحل تكون شخصياتنا، ولكن يصبح سلبي عندما يتحول بهذه الصورة المعيقة.

أَعلم انك إنسان وَفيٌّ حيال ذكرياته وما عاشه، و يمكنك أن تكون كذلك لكن بدون هذه النزعة الحزينة المعيقة، وأن تجعل من تلك الذكريات وقود دافع لعيش أفضل لا حارقاً للحظاتك الانية.

تقبل  كل ذلك واعلم بأنك لست مشاعرك ولكن أنت سلوكك معها، صاحب ماضيك وأفخر به لكن لا تجعله يسبقك!

وتذكر دائماً أنك المسؤول عن صنع ذكرياتك، فكيف تريد لها أن تكون؟ وكيف حاب تكون فيها ؟

11
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

لماذا نُخفي الإعجاب؟
2 كانون الثاني

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 7 دقائق
نمط حديث: العيش غير المباشر
5 آذار

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق
محاولات تحسين سرمدية
1 حزيران

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً