جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

لا معنى للأسرار بعد الخامسة والعشرين

ورثتُ التماسك والتعاضد من عائلتي، حتّى في أحلك خيالاتي وقلقي، يظلّون صامدين في الخلف، ينتظرون عودتي أو إنجاز أي أمرّ أقوم به ليحفلوا بصخب، وهذا ما تبرعُ فيه العائلة.

وقت القراءة المتوقع: 9 دقائق
[gpd]

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

خرجنا يوم أمس دون أن نحدّد وجهتنا، لنجد أنفسنا أخيرًا أمام المكتبة، وما يجعلُ الأمر لامعًا في ذهني، أني قدتُ السيارة إلى هناك لأشتري كتابًا بعنوان «طائر إثر طائر» وعدتُ أيضًا واضعةً الكتاب في حجري إلى البيت، لم أركن السيارة بشكلٍ صحيح، كنت مشدوهةً بروعة الأمر، أن تضع نفسك في خطرٍ لا رجوع منه، وتضل ممسكًا بالمقود تقيس احتمالات اقتراب السيارات الأخرى، وتترك السيارة تسبح في طريقها رغم أنني في أشدّ توتري هذه الأيام وتناقض أفكاري حول جدوى الكتابة، بجانب الفراغ المُتراكم في المنزل وعدم انتظام جدول النوم، والفوضى العارمة بالألوان والملابس وغسالة الصحون، وذهني العالق في قصّة كتبتها وأُريد نشرها، إلّا أنّني نسيتها تمامًا وأنا أقودُ السيارة، وكأنّ أحدهم قام بتخدير كل هذه الأمور، أو بتصفيتها، في جميع الأحوال، كأنّي قدتُ بنفسي إلى فكرةٍ ما.

قبل بضعة أيّام، بعد أن أنهيتُ فرض الفَجر، أشرق في ذهني تاريخ يوم ميلادي الخامس والعشرون القادم بعد شهرٍ من الآن، وتذكرتُ كم أن هذا العمر كان لامعًا بالنسبة لي وأنا في مرحلتي الثانوية، تخيّلتُ مرارًا بأني سوف أصلُه وأنا أكثرُ جمالًا، أملك وظيفةً رائعة، تخرجت من الجامعة بأعلى درجة، جسدٌ مثالي، روتينٌ يلفه الروعة والإنجاز، ويا للمفاجأة! لم تحدُث الأمور في السيَاق ذاته، لم يعُد يُهمّني إطلاقًا تخيُّل مثالية الملامح الأنثوية التي ينبغي أن أكونُ بها لأبدو بزعمي جميلة. إنني أملكُ خصائصي التي تُميَزني عندما أشعر بها مُنطلقة من داخلي كامرأة، وتمتدُّ إلى الخارج بوَهج، ازداد وزني في الأشهر الماضية، ولكنّها علامةٌ لسعادتي وابتهاجي لروتيني، رغم أنّي أود إصلاحه فعلًا، ولكن لا يهم، أعملُ كلّما سنحت الفُرصة، وأتقلُّب تارةً في جدوى ذلك، حتّى يُصيبني اليأسُ لكوني أخلط بين أسلوبي الخاص وأسلوب الآخرين، لازلت أحمل أخطائي الإملائية مثل سمة بارزة لعدم تخصصي باللغة العربية والنحو ، فتبدو أعمالي ضعيفةً جدّا أمام الكتّاب الذين أُفضلهم، ويبرزُ في ذهني جميع المقالات التي أثّرت بي لأقارنها في القصة التي كتبتها مؤخرًا، لأجد أنها بائسة، مخلوطة بأفكار كانت تتلقّف خيالاتي حول الأشخاص وأماكن من حولي، وأنها ليست ذات معنى بالأساس. لم أتخرج من الجامعة حتّى الآن، ولم أصبح مدربة رياضية، لم أُصبح الشخصية التي تصوّرتها، لقد عجنتُ خيالاتي حتّى تكونت الأضداد، ويا للرّوعة! لقد خضتُ عالمًا آخر، وهُنا تمامًا، تجلّت الرؤية! بأقلّ التوقعات، نلتُ سعاداتي البهيجة بيديّ. 

قبل يومين من الآن، اتصلت على أبي حتى أقطع شوطًا من الاطمئنان، ليأتيني صوته شرحًا وحنونًا، أبي الرجلُ الذي يُعرف بخطّين في جبينه جرّاء الغضب المستمر، والانفعال بصوت جهوري حول نقاشات مع أمّي،  يعبُر آلفًا من الكيلو مترات، إلى سماعة هاتفي بحنوّ يجعلني آسى على نفسي، لأني لا أحظى بروعة الحضور حوله، لم تكن أمي تغضب سابقًا، لقد اكتسبت الانفعال مؤخرًا، بعد أن استجدت أمورًا عائلية متراكمة، وهي الصورة الأكثرُ التصاقا في ذاكرتي، وهي أن أمي تحمل في طيّاتها حزنًا قديمًا لم تتفوّه به، وأصبحً عملاقًا لا يستطيع أن يشقُّ الطريق للخروج عبر كلمات، أو نقاشات، إنه متأصل منذ ستين عامًا، غضبٌ أثريّ، قديم، مُبطّن، دفين، كلّ تلك الكلمات التي تُشير إلى تاريخٍ مُغيّب عن ناظريك، أودُّ أن أصفهُ هنا، ولكنّ، كم يبدوَان عظيمان، رغم الجِراح المفتوحةِ بينهما. أحبّهما جدّا هذانِ المدافعان في حربِ الأيّام المتسارعة، والأخطاء الجسيمة. أحبهما. يُمكنني القول بأنّي ورثتُ التماسك والتعاضد من عائلتي، حتّى في أحلك خيالاتي وقلقي، يظلّون صامدين في الخلف، ينتظرون عودتي أو إنجاز أي أمرّ أقوم به ليحفلوا بصخب، وهذا ما تبرعُ فيه العائلة، ولكنّني لسبب خفيّ، لا أُحب أن أشارك الضيق مع أحدهم، كما أعتقد أني ورثتُ وحدة أبي، الذي يغلق الباب باكرًا ولا يخرج إلا ليشهر الغضب في وجوهنا جرّاء ضوضائنا، وهكذَا بقيتُ مثله، أغضب من الضوضاء التي تُكدّر صوت أفكاري، أو تحاول التأثير في قراراتي، أعرف بأني اتخذت أكثر القرارات خطأً في حياتي، ولكنّي لازلت أقف في صفِّ أن أقفُ وحدي، وبذلك أعرفُ بأنّي ورثتُ دلال الاختيار، وترف الوقوع في الأخطاء، والعودة للعائلة دومًا. 

تتمحور مخاوفي الآن، في أن تُخلع عظمتا ركبتيّ، وهو المشهد الذي يسترعي أن أبقيها مُنحنية حتى أثناء نومي، فأنا أكره جدّا أن يحصل معي هذا الموقف مرّة أخرى، بجانب الثلاث مرات الماضية، أما مخاوفي العظمى فهي حول الأمور الماليَة، وخبر فقدان أمّي، لا سمح الله. كما أنّي لا أحب الظلام، لذلك لا نستخدم الستائر عادةً لحجب الشمس في منزلنا حتى وقت النوم، مع أن هناك نصائح تقتضي بأن الهالات السوداء تحفر تحت العين إذا كنت نائمًا وهناك مصدر ضوء حولك، لايهمّ. ومع كلّ المخاوف التي تعبُرني، لا أخاف يومًا من الفشل في إحدى موادّي الدراسية، الأمر الذي يسترعي مني افتعال الاهتمام بذلك لأهمية الحصول على شهادة، فقط حتى لا أُضطر مُستقبلًا للقول: «يا ليتني درستها». أعرف بأنها سوفَ تنقذني يومًا ما عندما أحتاج إليها، أشبه بفكرة رخصة القيادة. وهي الفكرة التي تقتضي بأهميّة الاستطاعة والتحكم في المقود إن اضطررت يومًا، عدَا ذلك فإنهما سوف يبقيان في الخفاء، الشهادة والرخصة، بتناقض أهميتهما. ويا للسخرية. 

تتعالى في رأسي أصواتُ المشاركين معي في ورشة الكتابة، وهو المشهد الأروع على الإطلاق، عندما أتذكّر صوتي المُنطلق بأفكار عدّة وتناغم مستمر، تلمعُ في رأسي فكرة جدوى الوجود، أن يستمر أحدهم بالاستماع إليك وكأنك تخبره بأحد الوقائع المُهمّة، ويظلُّ يهزُّ رأسه بالإيجاب، أعرف.. لديّ الكثير من الأخطاء الإملائية والنحويّة، ولو قام أحدهم بتتبع كلماتي لوجد فيها فراغات كان يجبُ ملئها، أعرف السِّمة البارزة في كتاباتي والتي تنمُّ عن نقصٍ شديد في قواعد النحو، لكن أيضًا لن يهمني بعد الآن! لقد تجلّت أروع لحظاتي عندما كتبتها، حتّى حزني بدا تافهًا وصغيرًا عندما أشبّهه بأشياء فكاهية عند الكتابة، وهو الفعل ذاته الذي جعل الأسرار كلمة مفكّكة وضعيفة في ذهني، لا أملكُ سرّا واحدًا وأنا أكتب! عندما تقرأ تدويناتي، سوف يمكنك أن تضع حلقات أحداث حياتي في سلسلة كاملة، بما فيهم الأشخاص الذين مررتُ بهم، والأماكن التي وصلتُ إليها، والمشاهد التي أثّرت بي، أخي الأكبر، عائلتي، الحب، الطفولة، الرفض الأول، الراديو، الكتابة، نقاط ضعفي، والكثير. أعرف شيئًا واحدًا، وهو أن أُدرك مقامات الحديث مع الأشخاص المُناسبين لقول الأشياء، عدَا ذلك فإنه لا يُمكنني أن أعرب كلمَة سرّ إطلاقًا، ولا يُهمّني أن اختزل الحديث عن شيء وكأنّه حكمة بالغة، الحياة تمضي، وسوف نصبح في العد التنازلي بعد سن الخامسة والعشرين، لذلك لا معنى للأسرار! 

للاستماع للمقالة

بصوت:

محمد خوجلي

00:00 / 00:00

40
0

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
6 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن التشافي
كم مرة أنهينا حديثًا مع أحد وبقينا نُردد بعدها "ليتني قُلت كذا..."؟ أو "ليتني رددتُ بهذه الطريقة"؟ وكم حكاية شعرنا أنها لم تنتهِ بالطريقة المُناسبة؟

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق
عن الكُتب
ورثتُ التماسك والتعاضد من عائلتي، حتّى في أحلك خيالاتي وقلقي، يظلّون صامدين في الخلف، ينتظرون عودتي أو إنجاز أي أمرّ أقوم به ليحفلوا بصخب، وهذا ما تبرعُ فيه العائلة.

وقت القراءة المتوقع: 9 دقائق
عن التشافي
حينما يكون الهدف أن نصل لأعلى شيء وأفضل شيء، والكفاية التامة من كل شيء، لا نحقق من هذا الهدف سوى الشعور المؤلم بالعجز عن تحقيقه.

وقت القراءة المتوقع: 10 دقائق

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً