جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

أن تكون أكثر من فنان: تأملات في الإبداع متعدد الأصوات
15 كانون الأول
الفنون والإبتكار

أن تكون أكثر من فنان: تأملات في الإبداع متعدد الأصوات

15 كانون الأول

|

الفنون والإبتكار

أهمّ ما يُميّز المبدعين هو قدرتهم على خلق العوالم؛ عوالم لا تُشبه هذا الواقع، بل تتسلل من بين الكلمات، تُطرَّز بالأقمشة، تُرسم بالخطّ واللون، أو تُبنى من حجرٍ وزمن. كأنهم جميعًا جسور بين عالمين: عالم الإلهام المجرَّد، والعالم المحسوس الذي نعيش فيه.

المبدع لا ينقل الفكرة كما هي، بل يُعيد ترتيب الوجود كما يراه داخله. لا يسير في دربٍ مرسوم، بل يحفر ممرَّه الخاص داخل فوضى الإلهام، يدور وسط إعصار المعاني، ثم يُحوّله إلى خيوط ناعمة تُغزل على مهلٍ في لوحات، كتب، نغمات، وأحيانًا في أشياء لا اسم لها، قُدِّر لها أن تولد.

ولأن العملية الإبداعية كيانٌ حيّ، لا تقبل الانضباط الكامل ولا التجزئة، فهي تمنح المبدع حرية التفرّع والتداخل، أن يختار وسائطه كما تُحرّضه روحه. فما الذي يدفع المبدع، وإن اشتهر في حقلٍ واحد، إلى أن يخلق لنفسه مسارات متفرعة؟ ولماذا يبدو هذا التعدد، لدى بعضهم، ضرورة داخلية لا ترفًا؟ هل هي رغبة في الاتساع؟ أم بحث عن صوت لا يُسمع إلا حين تتعدد لغاته؟

في هذا المقال، سنمضي في أثر أولئك الذين لا يكتفون بأن يكونوا شيئًا واحدًا، بل يصوغون هويتهم الإبداعية من طبقات متعددة، يرون الفنون كأراضٍ متجاورة، يتنقلون بينها بحرّية الخلق المركّب.

التجربة كنافذة لتوسيع المسار

صانع الأفلام ديفيد لينش مثال حيّ لفنان متعدّد الخلفيات؛ امتدت تجربته بين الموسيقى والرسم والتمثيل، وقد انعكست تلك الخلفيات في أفلامه السريالية التي يصعب تقليدها. ممارساته الإبداعية المختلفة لم تكن فروعًا معزولة، بل روافد تصبّ في نهره السينمائي، وتمنحه طابعًا خاصًا.

إحدى محطاته الأخيرة قبل وفاته كانت في أسبوع ميلانو للتصميم، حيث قدّم قطعة أثاث نحتية تفاعلية، لا تُشبه أي مقعد تقليدي، تجربة حسية صُمِّمت لتحفّز التأمل والسكون. مع ذلك، بصمته السينمائية كانت جلية، حيث يتلاعب بالظلّ والفراغ والملمس، وكأنها مشهد صامت من أحد أفلامه.

لم تكن هذه التجربة وغيرها خروجًا عن السينما، بل توسعة لها. كأن لينش احتاج لتكثيف أفكاره ورؤاه في وسيط آخر، أصغر حجمًا، لكنه أكثر حدة وخصوصية.

 الفن بوصفه تنفّسًا حرًّا: بين الوعي واللاوعي

يُعد جبران خليل جبران من أبرز من عايشوا التعدد الإبداعي بين مجالين بعمق. بدأ حياته رسّامًا، وبقي يرسم حتى آخر أيامه، تاركًا خلفه مئات الأعمال الفنية، تنوّعت بين اللوحات والرُّسوم. ورغم أن شهرته الأدبية طغت على فنه التشكيلي، فإن الرسم لم يكن يومًا مجرّد هواية، بل كان كما قال فعلًا لا إراديًّا، على عكس الكتابة التي تتطلّب وعيًا ويقظة.

لوحاته كانت شرحًا لكتابته بلغة أخرى. في كتابه الشهير النبي، وضع اثنتي عشرة لوحة جاءت كشروح مرئية للنصوص، وكأنّ المعنى لا يكتمل إلا بها. إحدى هذه الرسوم تُظهر شخصية “المصطفى” بعينين واسعتين لا تنظران إلى شيء، لكنهما تُبصران ما لا يُرى.

الرسم لدى جبران كان المساحة البيضاء التي يتدفّق عبرها إبداعه بسلاسة، ليُكمّل فوقها لاحقًا جهوده الفكرية والأدبية بكلماته كطبقة إضافية.

محطات فارقة: الخيط الأحمر في النسيج

في حياة البعض، لا يكون الفن مسارًا أساسيًا، بل لحظة فارقة، نقطة تُضيء الدرب دون أن تبتلعه. ستيف جوبز لم يكن فنانًا بالمفهوم التقليدي، لكنه كان يملك حسًّا جماليًّا نادرًا، جعل من التقنية تجربة فنية حسية غير مسبوقة.

في خطابه الشهير لخريجي جامعة ستانفورد، تحدّث جوبز عن “ربط النقاط إلى الوراء”، وأشار إلى مقرر خطّ الطباعة الذي أخذه مصادفة أثناء سنواته الجامعية المربكة. هذا المقرر، كما قال، علّمه تقدير الفراغ، وتناغم الأشكال، ودقة التفاصيل. لم يخطط لاستخدام ما تعلّمه يومًا، لكنه حين أسّس شركة “آبل”، أدرك أن تلك النقطة البعيدة شكّلت جزءًا أصيلًا من هوية منتجاته: في بساطة سحرها الصامت.

قد لا يكون الفن طريقه، لكنه خيط أحمر وحيد واضح وسط نسيجه. محطة لم يُقم فيها طويلًا، لكنها طبعته للأبد.

العودة إلى الذات: حين يتبدّل الوسيط وتبقى الروح

جيم كاري، الممثل الكوميدي الذي أضحك أجيالًا، قرّر أن يتنحّى عن الشاشة، لا ليختفي، بل ليعود إلى نفسه. لم يتخلَّ عن الفن، بل غيّر وسيلته. وجد ملاذه في الرسم، في الألوان الصارخة، في الخطوط المجنونة، في مرسمٍ خاص يغلق فيه العالم، ويفتح بوابة نحو الداخل.يقول: “لا يمضي يوم دون أن أتلطّخ بالألوان.”

لوحاته لا تُشبه أعمال فنان تقليدي، بل تُشبهه هو: ضاحكة أحيانًا، جارحة غالبًا، مزيج من السخرية والوجع. كثير منها يعبّر عن مواقف سياسية أو حالات شعورية خفية. وكأن الكوميديا التي كانت تمرّ عبر الوجه والحركة، أصبحت تمرّ عبر ضربات فرشاة. لم يكن الرسم لديه عودة إلى البداية، بل بداية جديدة، فصلًا آخر من كتاب إبداعي لا يُكتب بحبر واحد.

 

ختامًا، القفز من مجال إلى آخر لا يعني بالضرورة أن باب النجار قد خلع، بل يعني أن ذلك الباب قد أعيد تشكيله بلون جديد. ليس تشتتًا، بل اتساع. هو سَير في نهرٍ ذي فروعٍ كثيرة، تصبّ كلها في قلب مبدع واحد. هؤلاء لا يتنقلون بين الفنون، بل تُنقلهم الفنون. تأخذهم الوسائط حيث يجب أن يكونوا، دون أن يخشوا التصنيف.

2
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

هل نرتبط حبًا أم خوفًا؟
29 أيلول
النفس والعاطفة
5 دقائق
أبحث عن بُرجي
8 آب
النفس والعاطفة
6 دقائق
رحلة البحث عن سكن
6 حزيران
العمارة
6 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً