جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

تأملات‎ ‎فتى‎ ‎الأسمنت

دعونا نبحث في الجبال والأنهار وزوايا الأرض المخفية، لأنه في هذه الأماكن يمكننا إعادة الاتصال بأعمق حقائقنا.

وقت القراءة المتوقع: 10 دقيقة
[gpd]

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

بدعم من

للاستماع للمقالة

بصوت:

مهند فيصل

00:00 / 00:00

مرحبًا مجددًا عزيزي، إنها الساعة الحادية عشر وستة وعشرون دقيقة بتوقيتِ جبل «دكا». هذه المرة قررت الشروع في رحلة غير تقليدية، رحلةٌ من شأنها أن تعيد تصوري لمفهوم السفر. مجهزًا بخيمةٍ صغيرة ومؤونة تكفيني لأيامٍ ثلاثة، انا هنا لأنخرط في الطبيعة وأتعمق في عوالمها بلحظاتٍ عميقة من التأمل.

الساعة الحادية عشر وثلاثون دقيقة، ها أنا جالسٌ بثباتٍ تحت النجوم وبين الأشجار، عندما تلف الظلمة العالم، ويغمر السكون الهادئ كل شيء. بينما جلست وسط النجوم المتلألئة، وجدتُ نفسي منغمسًا في لغة الصمت التي يتردد صداها بين الأشجار وأغصانها الهشّة المتناثرة. همست السمفونية الليلية حكايات الكون وجماله الخالد. عندما كنت ثابتًا كالحجارةِ تحتِي، هناك شعرت بأن روحي تتحرك بإيقاعٍ طبيعيٍ متجانس، عندها أغمضت عيناي بكل هدوء وتأملت، فسالت كل الطبيعة من حولي لروحي الراقصة آنذاك، وزرعتْ بذورها القوية. الساعة الحادية عشر وستة وثلاثون دقيقة، فتحت عيناي الباكية، الضياء يتملك كل ما حولي، لا أعلم ما هو المصدر، ولكنني قررت في سفرتي هذه، أنني سأكون حيًا ويقظ.

في الريح والشجر، الساعة الثامنة وخمسة وثلاثين دقيقة بتوقيت جبل «دكا». فتحت عيناي ببطء لأول مرة منذ مدة طويلة، صوت حفيف من حولي يناديني، مع ذلك الصوت أصحبتْ عزلة خيمتي ملاذًا للنفس، أصبحتْ كل الاشياء المصنعة أكثر روحًا وأكثر معنى، لوحدي في خيمتي أعطاني ذلك الصوت عزاء الوحدة، فككت بابها الضعيف المطرز، ورأيت نسيج الطبيعة يتراقص امامي، الأشجار.. نعم! أكاد أجزم أنني سمعتُ انفلاق إحدى البذور في داخل روحي آنذاك. حضّرتُ وجبة الافطار المتواضعة واستمتعت برائحة الاعشاب البرية من حولي، انتهيت من وجبتي بعد لحظات ومشيت بشكلٍ متعرج لكرسيّ الهش المنصوب فوق التل، جلستُ أتأمل في النسيج، في الأشجار، التي تشعرك أنها في علاقة عظيمة مع الأرض، أحد تقاليدها الخالدة، بدايةُ لذة الإنسان وبدايةُ خطاياه. علمياً تهمس الرياح بأسرارٍ عن ديناميكيات السوائل وتدفق جزيئاتها عبر الغابة، لتواجه الوجود المهيب للأشجار، لتكشف الرقصة بين الرياح والشجر عن علاقة عميقة يتردد صداها في أعماق الروح البشرية. للوهلة الأولى قد يبدو الأمر مجرد تفاعل جسدي، لكن الخوض في الأعماق يكشف عن تفاعل معقد بين العلم والروحانية يمس جوهر وجودنا. تغنتْ الحضارات القديمة بذلك، منهم من قال إن الاشجار رئة الأرض ومنهم من قال إن الرياح تحمل حكايا الماضي والأسلاف، أما أنا فوّفرَ لي قضاء الوقت هناك فوائدَ كثيرة لم أكن أعلم أنني قد اتلقاها من هذه الرقصة، قلّ التوتر والقلق، وزادت الرفاهية العقلية، حضرَ الإيمانُ والإدراك. تذّكرتُ حينها مقولة «رالف والدو»: «وسط الاشجار، نعود للعقل والإيمان». 

 

الساعة التاسعة بتوقيت دكا،  زاد ارتباطي بالنسيج الأكبر للوجود

المياه والجبل. الساعة العاشرة صباحًا بتوقيت «ميسان». توقفت بجانب الطريق أمام سهولٍ ممتدة، تتوسطها مزرعةٌ وحيدة تشّع تحت ضياء الشمس كزمردةٍ خضراء، بدأ أحد سادةُ عقلي العقلاء بتلاوة آيات قرآنية وهي «صنع الله الذي أتقن كل شيء». اتقانٌ لا متناهي، ها هو الهواء يدفعني للنظر إلى الخلف لتحوم ورقات الشجر مع التربة، وشاح الأرض الذهبي، حملتني هذه التربة بعد تلك اللحظة التحريرية في اتساعها العظيم لشلال «خيرة»، شققتُ طريقي متسلقًا الجبل، مباريًا لمسار المياه، شعرت لوهلةٍ جعلتني أُخرجُ ضحكةً تهكميةً لطريقة تفكيري الغريبة، أنني جزءٌ من هذا الشلال، انسيابية في الصعود والنزول بلا أي اكتراث للصخر، وصرخات الناس من حولي، دعوني، أنا الان جزءٌ من هذا كله، قلت لنفسي. جلستُ على بداية خروج الينبوع، حولي الطحالب اللزجة مزينة الصخور كتيجان خضراء، ويجلس حولي عدة أشخاص أشقياء بهدوء تام وكأننا طيورٌ تحرس الماء، تسللتْ خاطرةٌ لعقلي آنذاك، كل هذه الأرض، تحمل كل هذه الجبال. ولكنني ما لبثت بضع ثوان ليعود أحد العقلاء بالصوت مجددًا فيقول: أنسيت؟ الأرض المبسوطة والجبال الرأسية كما وصفها المقدس. تضارب مشاعري الذي اشعر به الان، جعلني افهم لما كانت الجبال وصف لكل ما هو مهيب وعظيم، ولما كانت ملاذ الأنبياء وبداية التفكر والاختبار الروحي، وبداية الوحي. قبل (1400) سنة وعلى بعد (301) كيلو مترا بالتحديد، كان يجلس أحد رجال قريش، يتيم الام والاب، يتفكر في هذا الكون من خلال تأملاتٍ مبنية على هذا الصخر العظيم. وسط هذا الاتساع وضعت يدي على المياه الباردة لتحكي لي عن دورها وتُثبت وجودها البديع، فهي مع الجبل والصخر، يقف هذان العنصران الطويلان آيات ومذكرات، الجبال العظيمة، والمياه المتدفقة، يثير وجودهم شعورًا بالرهبة والاندهاش، مما يعكس تأثيرها العميق على كل من العالم المادي والروح البشرية. يوفر لنا استكشاف القوة التي يمتلكونها نظرة ثاقبة حول علاقتنا كبشر مع المحيط الحديث حولنا. 

غالبيتنا يدور في هذه الغابة الاسمنتية بلا أي انسيابيةٍ وتحد، ألا يشكل الماء الجزء الأكبر منا! لذا لماذا نحن راضخين لهذا الصخر المصنع حولنا، وهذا الماء يشق طريقه بكل قدسية وقوة، ليحفر مكانه ويظهر حيًا يمد الحياة للكل. سيولة الماء تعلمنا فن القدرة على التكيف والسير مع التدفق. مثل الماء، يمكننا أن نتحرك في تقلبات الحياة، واحتضان التغيير وإيجاد القوة في المرونة. اعكس دروس الجبال والمياه في حياتك اليومية.

 ابحث في سفرك عن لحظات السكون والرهبة في الطبيعة، لأنها توفر العزاء والتجديد. ازرع الامتنان للقوة والحكمة التي تكتسبها من هذه العناصر، ودعهم يرشدونك في رحلة اكتشاف الذات والنمو الشخصي. هناك الاشجار تنسج الحياة، تشق طريقها كهذه الزهرة البرية، ولو كان الطريق باتساع عين «بفن»، ولكنها مهما كان تظهرُ نسيجها البديع. وهذه انسيابية الفكر، سترشدك وتقودك في عالمك الحديث إذا سمحت لها بالحضور. فالسفر وقفة وتأمل، نوعٌ من الإبطاء الزمني، دع الروح الجامحة لزهرة البرية أن تكون فيك. دعونا نبحث في الجبال والأنهار وزوايا الأرض المخفية، لأنه في هذه الأماكن يمكننا إعادة الاتصال بأعمق حقائقنا. وبينما ننطلق، قد نحمل في داخلنا حكمة الأنبياء والعظماء من البشر، ونستمد الإلهام من رحلاتهم ونسمح للسفر بأن يصبح قوة تحويلية في حياتنا، فالسفر قد يكون إذا أردت يا عزيزي القارئ، حالة تعبّدية. 

أصبحت حياً ويقظ

إنها الساعة الحادية عشر وستة وعشرون دقيقة بتوقيت مطار أبها، أجلس بجانب صديق عزيز، نناقش موضوعنا عن الفردانية والجمعية، كانت تراقب عيناي آنذاك شيخًا كبيرًا يأكل فاكهة «االقركس» بكل شراهة ولطف بنفس الوقت، التفتَ لنا وتلاقتْ عيناي بعينيه وقال: «فردانية وجمعية؟ نمط الحياة دا كلو تغير».

نظرت لصديقي بكل دهشة، كيف يعرف هذا الشيخ بلباسه الفلاحي عن الفردانية والجمعية؟ سأله صديقي: «أنت مدرس؟»، الشيخ: «لا مدرب»، وأخذ يضحك.

قال وبدون أن نسأله، أنه «يأكل الفاكهة بسبب انخفاض مستوى السكر لديه»، رآه أحد أهل هذه المنطقة الكرماء وهو يعاني من الاعياء والتعب، فجلب له الفاكهة من أقرب «بسطة» موجودة بجانب الطريق، قدّم لنا الفاكهة، ولكن أبيّنا أن نأخذ منها، فهو في حاجةٍ لها أكثر منا، ارتسمتْ ابتسامة لا إرادية على وجهي، ها هو الشيخ يشق طريقة وسط الأسمنت، سألني صديقي حينها، «ما بك؟» أجبته أن هذا الرجل أحد النباتات البرية في وسط الاسمنت، فضحك على سخافة قولي. اعذره عزيزي القارئ فهو لم يفهم، لم أُخبره عن انعكاس هذه الرحلة روحيًا عليّ كما أخبرتك بها الآن. استمررت مبتسمًا وأنا أراقب الطائرة التي ستقلنّي الى الرياض، استمررت بالابتسامة لأنني استوعبت حينها، أنني أصبحت حياً ويقظ.

19
1

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
2 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن النفس
النفس البشرية عزيزة ومكرمة، لها قيمتها الكاملة. وعندما يعي الإنسان قيمة نفسه، يتسامى عن الانزلاق في مكامن الأذى والتساهل في حقه بحجة العواطف وغيرها.

وقت القراءة المتوقع: 4 دقائق

خرائط الوعي

عن السفر
جسدك مُصمم ليكون يقظًا دائمًا بالكثير من المستشعرات الذكية جدًا، جسدك أذكى من أن تعرفه وأعمق من أن تدركه.

وقت القراءة المتوقع: 14 دقيقة

عاجل من عقبة حبو

عن التشافي
فالحزن غالبًا ما يكون دافعًا لتغذيةِ تجربةِ الإنسانِ وتكوين صورةٍ مغايرة لعمله الإبداعي، وتجريد انتمائه الذهني من متعلقاتِ الجذور والترسبات المضطربة.

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق

ثنائية الحزن‏‏‎ ‎والشغف

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً