ما هو سر شعور الوفرة والسعة الذي يعترينا عند مشاهدة الامتداد اللانهائي للصحراء؟
أو أثر موج البحر لحظة ارتطامه بالصخور في تهدئة غضبنا؟
ما قصة الراحة التي نشعر بها لحظة احتضان النسيم المنعش لنا في يوم لاهب؟
أو الأنس الذي يملأنا عند تراقص أشجار النخيل مع الريح وسماع حفيفها؟
الاتزان بالطبيعة
لا شعورياً نعيد اتزان ذواتنا من خلال الطبيعة، نقايض انفعالاتنا وصراعاتنا مع جمال الطبيعة وسكونها مشكلين توأمة معها. لا خلاف على أثر الطبيعة في إضفاء سمة الهدوء علينا، لكن الأمر كان مختلفاً وأكثر عمقاً مع الشعر الصوفي. فيه نرى الطبيعة آية من آيات الله التي تدلّ على ذاته، وتشير إليه باعتبارها انعكاسًا جماليًا مطلقًا وذلك استناداً على الآية القرآنية “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم”. لذا نجد في هذه التجربة الشعرية تماهيًا مع الطبيعة باعتبارها عدسة مكبرة يتعرّف الإنسان من خلالها على ذاته ويهذبّها. متخليًا عن صفاته المذمومة ومتحلّيًا بالصفات المحمودة. “يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه” ابتداءً من العقبات اليومية التي يصادفها الإنسان في حياته إلى العقبات الكبرى، تصنّف رحلة الإنسان نحو معرفة ذاته بأنها رحلة شاقة تحوي تجارب متعاقبة من الهداية والغواية، الفجور والتقوى، الفراق والوصال والتي ماثلت في إحساسها الموت والولادة.
العنقاء ورمزية التجارب الإنسانية
تقوم اللغة الشعرية الصوفية على استنطاق رموز الطبيعة لتعبّر عن تجارب الإنسان الحسية والمعرفية التي لا يستطيع التعبير عنها، لذا نرى الشاعر الصوفي يتخذ من السيمرغ/العنقاء رمزاً يماثل ذاك التعاقب. ففي كل مرة يتألم فيها الإنسان يولد من جديد حرًا مقتربًا أكثر من ذاته مثل السيمرغ/العنقاء الذي يولد من رماده من جديد في كل مرة يحترق فيها. يقول جلال الدين الرومي: “غاية الوجود التجلي، لهذا تخضع المخلوقات لاختبار الهداية والغواية/ الشيطان لا يكف عن الغواية، والولّي لا يكف عن الهداية”.
الحب سر الحياة
لم تقتصر مهمة الشعر الصوفي على التعبير عن معاناة الإنسان بل امتدت لتدلّنا على السر الذي يعين الإنسان على تجاوز تواتر حالتي القبض والبسط التي تختاله وذلك بالحب. ولكن لو كان سر الحياة ببساطة ينطوي في كلمة من حرفين، لماذا إذًا نجد صعوبة بأن نكون في حالة حبّ؟ يجيب الفيلسوف والطبيب إريك فروم في إحدى مقابلاته: “لأننا مهتمون بالماديات. الحب ليس سهلاً، كل الديانات الكبرى تفترض أن الحب هو أحد أعظم الإنجازات. لو كان الأمر بهذه السهولة كما يعتقد معظم الناس، فمن المؤكد أن الأديان الكبرى ستكون ساذجة”.
الفراشة ورمزية الحضور الكامل
قرأت مرة في ديوان حافظ الشيرازي: “إن كنت تريد الحضور فلا تغب عنه يا حافظ/ متى ما تلق من تهوى، دع الدنيا وأهملها”. وهنا تجلى لي كيف يؤمن الشاعر الصوفي أن الحضور الكامل في الحب هو الوصفة السحرية لمعالجة إشكالية الانغماس بماديات الحياة التي تربك كيان الإنسان وتجعله في حالة انشقاق يتعارك فيه قطباه العقلي والقلبي. إن إدراك اللحظة الحالية هو توجه معظم كتب تطوير الذات وشفائها، أما مايكل براون فقد كان أكثر تحديدًا في كتابه “الحضور”، عندما بيّن بأن مفتاح الحضور يكمن في السكينة والرضا لحظة طفو الشحنات العاطفية على السطح أثناء عملية الحضور. إذن، كيف نستطيع أن نحقق السكينة أثناء عملية الحضور في اللحظة؟
كن بُلبُلًا
يبين لنا الشاعر الصوفي استحالة الحضور الكامل بالحب بدون استشعار الإنسان لمعنى الجمال، ولما كانت الطبيعة هي منبع الجمال المطلق الأزلي، بالتالي أصبحت هي الركيزة التي بها نسكن ونحب ونتجاوز ونحيا، وأصبحت التوأمة مع الطبيعة والتماهي بها ومعها مطلبًا أساسيًا لإزاحة الأيام الثقيلة في عصرنا الحديث، والارتقاء بأنفسنا تماثلاً مع التجربة الشعرية الصوفية. عبّر الشعراء الصوفيون عن هذه التجربة بفيض في ثنائية البلبل والوردة. الوردة كونها الجمال المطلق، والبلبل هو الحبيب الذي يغرّد حبًا ليتجلى جمال الوردة ويزهر. يقول حافظ الشيرازي “ولِّ وجهك شطرَ الصحراء لتنفض عنك غبار الهموم/ وتعالَ إلى حديقة الورد لتتعلم من البلبل قول الغزلِ”.
لطالما تساءلت أيمكننا أن نعيد التجربة الصوفية؟ وماذا لو فعلنا؟ هل تساعدنا تلك الرموز المختبئة خلف ستار الشعر الصوفي فعلاً في معرفة ذواتنا بشكل أفضل؟ وتحسين حياتنا؟
يطرح الفيلسوف الفرنسي فيليكس جاتاري في كتابه “الإيكولوجيات الثلاثة” فكرة أن المأساة الإيكولوجية التي تهدد بانقراض الحياة لم تنحصر فقط بالضرر على الأرض بل إن “أنماط الحياة البشرية نفسها قد تعرضت للضرر والهشاشة والتصحر الروحي والعاطفي معًا” وذلك لأن علاقتنا مع الطبيعة أخذت بالتصدّع مع العصر الحديث والغزو التكنولوجي مخلّفة تشتتًا ذهنيًا وقلقًا نفسيًا وخواء روحيا. إذ تلاشت النقطة التي كان يتلاقى فيها كون الإنسان الداخلي مع الكون الخارجي المتمثّل في الطبيعة. ابتعد الإنسان عن مصادر الجمال حتى في بيته، الذي كان سابقاً فناءً مفتوحاً يحتضن في قلبه السماء وأشجار النخيل والياسمين. “ويا أسفاً أن بلبلاً مثلي قد أصبح أسيراً في هذا القفص المحكم/ ولسانه عذب الألحان.. ولكنه صامتٌ كلسان السوسن الأبكم”.
ختاماً، نستخلص من الأدوات التي قدمّها الشاعر الصوفي بأن الإنسان خُلِق ظامئاً أبدياً للجمال، مفطوراً على الاتصال لا الانفصال، “فليس لي الصبر الجميل على اشتياقي للجمال” لذلك نحن موعودون بالسعادة انطلاقاً من الجمال الساحر الذي يحيط بالكون أملاً في تحرير ذواتنا من أغلالها بالحب. هذه دعوة للتماهي مع الطبيعة واستزادة قيم الجمال والحب والحرية منها لنكون أكثر قدرة على تحمل الوجه الفظيع من الحياة.