نعيش في عالم مزدحم بكل شيء: أفكار تركض، مواعيد تتراكم، وأحاديث لا تنتهي. وسط كل هذا الضجيج، يمرّ بنا أحيانًا شعور غريب، فراغ لا نعرف له سبب، ولا نملك له اسم. لا يُملأ بكلام، ولا يهدأ بعمل، ولا يخفّفه وجود. يظهر فجأة في منتصف ليلة طويلة، أو عند أول لحظة سكون، لنتساءل بصمت: هل هذا كل شيء؟ هل هناك معنى أعمق؟
سمعنا كثيرًا عن الروحانية، لكن هل ندركها حقًا كما ندرك أي شيء آخر في الحياة؟ لستُ متأكدًا.
أحيانًا نتصوّر الروحانية كعزلة نختارها بعيدًا عن العالم،أو نراها رهبنة صارمة.. وأحيانًا نختزلها في طقوس مُحدّدة: بخور يحترق بصمت، شمعة تذوب على مهل، أو سبحة تتحرّك في يدَيّ خاشع. لكن في أحيان أخرى، تبدو الروحانية لنا كشيء غامض.. فما الروحانية إذًا؟ وإلى أي حدّ نحن بحاجة إليها في هذا العالم المزدحم؟
في أبسط تعريف لها، الروحانية هي الاعتراف بأن هناك طبقات أعمق للحياة لا تراها العيون. وهو المعنى الذي عبّر عنه ديفيد إلكينز، أستاذ علم النفس الإكلينيكي، بقوله: “الروحانيةّ هي أسلوب وجود في العالم يعترف بالقداسة الكامنة في تفاصيل حياتنا اليومية.”. أن تكون روحانيًا يعني أن تدرك أن الحياة ليست مجرد أحداث، ولا الناس مجرد أجساد، ولا الأشياء مجرد أشياء. أن تعرف أنّ خلف كل نظرة قصة، ووراء كل لحظة معنى، وداخل كل خسارة رسالة.
الروحانية: أوسع مما نتصور
الروحانية ليست صورة ثابتة، أو طقس معيّن يُمارس، بل هي شعور حيّ. هي شيء يُستشعَر في الداخل، ويُلمَس كنتيجة في حياتنا تنقذنا من محدودية النفس، وضيق الفكرة، وألم الشعور، وتأتي كمعجزة ترشدنا حينما تتبدل الأيام.
تشير الطبيبة النفسية البريطانية د. مايا سبنسر، في ورقة نشرتها الكلية الملكية للأطباء النفسيين، إلى أن:“الروحانية هي الاعتراف بشعور أو إحساس أو إيمان بوجود شيء أعظم من الذات، شيء يتجاوز التجربة الحسيّة للإنسان، وأنّ الكل الأكبر الذي نحن جزء منه ذو طبيعة كونية أو إلهية.”
دائمًا ما أتخيل الروحانية على أنها حالة من التوكّل، من الاتصال بما هو أكبر.. بما هو أعظم.. حالة من الشعور بالحماية وسط تناقضات الواقع، ومن الإلهام الذي يأتي في الوقت المناسب. كما يوضّح الفيلسوف سورين كيركغارد -فيما معناه- أن الإنسان يظلّ في حالة يأسٍ روحي ما لم يعترف بحاجته المطلقة إلى الله. فعندما يحاول الفرد الاعتماد على نفسه فقط، أو يغرق في المادية، فلن يشعر إلا باليأس، والفراغ، والضياع.
الروحانية لا تُقاس برقم ثابت، ولكنها تتجلّى في دعوة صادقة من القلب، وفي نضج عميق بعد ضربة، وفي رزق يصل من حيث لا تعلم. هي الصوت الذي يهمس: الليل، رغم ظلمته، فرصة للاتصال. والألم، رغم قسوته، فرصة للاستيقاظ. أنت الذي قد تكون نائمًا وتحسب أنّك مُستيقظ.
الروحانية: قوّة داخلية
أن تكون روحانيًا يعني أن تدرك أنّ الحياة ليست ضدّ أحد، ولا مع أحد. أن تعرف أنّ القوة في داخلك، لأنّك خليفة اللّه في أرضه، مُحاط بملائكة، ودعاؤك مستجاب، وأقدارك كلّها خير، إن آمنت بذلك.
الروحانية أن تقرأ آية في كل مرّة وتخرج منها بإدراك مختلف. أن تدعو وأنت تعرف أنك تدعو كريم. وأن تعطي وأنت موقن أن العطاء له عودة. الروحانية هي أن تسعى وفي بالك آية:”وأنَّ سعيه سوف يُرى” أن تصبر وأنت موقن بالعِوَض، وأن تتخلّى لأنك تؤمن بأن ليس كل شيء كُتب ليكون لك.
الروحانية تعني الحضور، أن تأخذ بالأسباب دون أن تتعلّق بها، أن تبذل الجهد وتراهن على البركة، أن تتوقّف عن السباق الأعمى، وتعيش اللحظة. وفي اللحظة تحدث الكثير من المعجزات. الماضي يخفت، والمستقبل يلين، والمرض يضعف، والقوّة تتضاعف.
هكذا يعيش إنسان اعتاد على الحضور التام: إن تكلّم انسجم، وإن صمت أنصت، وإن دعا خَشَع، وإن صلّى اتصل بيقين بما هو أعظم. إنسان لا يعمل بالمعنى الذي نعرفه غالبًا عن العمل، بل يعمل وكأنّه يلعب. ولأنه يعيش بهذه الروح، يتجلّى على مهل، ويتمرحل في الوعي بهدوء، ويتذوق الحياة كأنها لحظة طويلة واحدة.
التعامل مع الحياة كما هي
الروحاني يتعلم كيف يستقبل الفرح دون خوف من فقدانه، يحتضن الألم دون أن يقاومه، ويفتح قلبه للمجهول دون أن يشترط على نفسه فهم كل شيء. أن تكون روحانيًا لا يعني أن تهجر العالم، بل أن تعيشه، أن تجد الجمال في كوب قهوة في صباح بارد، في ضحكة عابرة على ملامح غريب، وفي دمعة بريئة على خد طفل.
وقد لا تتجلّى الروحانية فقط في لحظات الفرح، بل أحيانًا، أعظم يقظة للروح تظهر من الألم. تقول د. مايا سبنسر “التطوّر الروحي قد لا يكون حدثًا فوريًا بالضرورة، بل قد يُكتشف تدريجيًا، كما يحدث عند المرور بتجربة مرض شديد أو تلقّي تشخيص نهائي، حيث تتجلّى هشاشة الحياة أمام الإنسان، فيضطر إلى إعادة تقييم معنى وجوده.”
فالألم لا يكسر الروح بالضرورة، بل يكشف لها عن عمق مدهش تجهل وجوده. ولو مررت بغصّة قديمة، وخيبة صادمة ، وسقوط مؤذي، فتذكّر أنّ الغصّة بوابة، والخيبة نضج، والسقوط نداء استيقاظ.
أن تكون روحانيًا لا يعني أن تصبح إنسان خارق، ولا يعني أن تهرب من آلام العالم، بل يعني أن تمشي وسط الحياة، بفوضاها الواردة، وفرحها الكثير، وألمها القاسي بقلب مفتوح، وهدوء حكيم، ورضى دافئً.
الروحانية ليست وعدًا براحة دائمة، بل دعوة للصبر بوعي، والثقة بأنّ خلف كل شيء رسالة وقصّة أعمق.
في عالمٍ يمتلئ بالفوضى والمجهول، أن تكون روحانيًا يعني أن تكون شمعة تضيء نفسها أولًا، ثمّ تضيء مَن حولها على مهل وفي الوقت المناسب. لا تحرق ولا تحترق، لا تستعجل ولا تنتظر، لا تيأس ولا تبالغ في الأمل.