جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

متى يكون الشارع شاعرًا؟
4 تشرين الثاني
العمارة

متى يكون الشارع شاعرًا؟

4 تشرين الثاني

|

العمارة

دائمًا ما تُظهر الأفلام شاعرية الشوارع من خلال تصوير روائح المخبوزات والقهوة بصريًا. وليس الأمر حكرًا على الأفلام، بل نجده أيضًا في الروايات، والسير الذاتية، والشعر. العجيب أننا نستشعر هذه الشاعرية فورًا، بنفس الدرجة من التأثر، عند شمّ رائحة الخبز – إن صح التعبير – وكأنها لغة مفهومة عالميًا، بغض النظر عن ثقافة المتلقي، خلفيته، أو حالته المادية.

فهل ترتبط الشاعرية في الشوارع بالرائحة؟ بالتصميم الحضري؟ أم بعناصر متداخلة بين الحسّ والتصميم تخلق لحظات حسية تمرّ بنا في المكان وتعمّق تجربته؟ في هذا المقال، سأتناول ثلاثة عناصر تُعزّز من شاعرية الشوارع، متقاطعة مع مبادئ صناعة المكان، وتلامس في جوهرها فلسفة الشاعرية. ومن خلال أمثلة متنوعة، سأُظهر كيف تختلف هذه العناصر باختلاف نوع الشارع وحجمه، وكيف يمكن لتفاصيل صغيرة أن تصنع فرقًا كبيرًا في التجربة.

نغمة الحياة: همسات الشارع وضجيجه

شاعرية الشارع تأتي من نبضه بالحياة، من تواجد الناس، ولو مرورًا مشيًا. فمتى يعيش الشارع ومتى يذبل؟ ببساطة، حين تختفي منه أصوات الحياة اليومية أو تزداد: ضحكات الأطفال، نداءات الباعة، خطوات العابرين، وحتى الموسيقى الخفيفة المتسرّبة من بعيد، كلها إشارات حياة وشاعرية. نستثني منها هدير السيارات وضجيج الآلات، فذلك ليس من الشاعرية في شيء.

أصوات الحياة تخبرنا عن جودة تصميم الشارع، مثل سلاسة الأرصفة، وتوزّع المقاهي الصغيرة والمتاجر المحلية، وتناثر حدائق الأحياء، والأهم من ذلك: توافر الأمان. كل هذه التفاصيل – التي تبدو بديهية لجودة الحياة والشارع – كانت يومًا محل سخرية وهجوم، كما حدث مع نداءات جين جاكوبس. لكنها اليوم لسان الحساسية التصميمية الجديدة، ومرجعية لتشكيل شارع آمن، قابل للمشي، حيّ بأصواته.

كلما زادت عمومية الشارع وتنوّع مستخدميه، كلما تنوّعت أصواته وارتفعت. ولحفظ هذا التوازن، نحتاج لمساحات أكبر للمشي والجلوس واللعب. شارع “لارامبلا” في برشلونة نموذج مثالي على ذلك: أشجار ضخمة، ظلال مريحة، محلات تجارية، وتنوّع بصري وصوتي يصنع شاعرية خاصة. فهل أصوات الحياة تزيد شاعرية الشارع أم تزيد شعبيته فقط؟ الأصوات هي مادة الشاعرية الخام، الموجدة للأمن، والأساس لبروز العناصر الأخرى.

عمق الرؤية: تعدد زوايا النظر

الشارع الشاعري هو الذي يمكن رؤيته من زوايا متعددة، وعيشه بأدوار مختلفة: عابر، ساكن، متفرج. هذا التعدد يبدأ من تفاصيل الأرصفة، تنوّع الأشجار، نقوش المباني، وصولًا إلى وجود نهر يقطعه. شارع “لومبارد” في سان فرانسيسكو، بشكله المتعرّج وتسلقه لتلٍّ من تلال المدينة، مثال رائع على ذلك. المشي فيه، أو رؤيته من سيارة، أو حتى النظر إليه من نافذة مبنى مجاور، يخلق لكل لحظة منظورًا مختلفًا. وهذا التعدد يعمّق علاقتنا العاطفية بالشارع.

في بعض الأحيان، تتجلّى شاعرية الشارع ليس فقط في تفاصيله المادية، بل فيما يُلقيه الليل عليه من سكينة. حين يسدل المساء ظلاله، تُصبح زوايا النظر مضاءة بإضاءة خافتة، تتباين بين أعمدة الشوارع، والأنوار المتسللة من النوافذ، أو حتى من الأضواء المعلّقة بين المباني. مثل هذه الإضاءات تصنع طبقة جديدة من التأمل، وتُعيد تعريف العلاقة مع الشارع ليلًا، كمساحة حميمة لا تقل شاعرية عن النهار.

لكن هذه الزوايا تُخنق حين يغيب التوازن البصري بسبب تكدّس السيارات، كثرة اللوحات التجارية والإرشادية، فوضى الإعلانات. كلها تشتّت العين وتُبعدها عن جماليات الشارع. رأيت رجلًا يتقدّم لفتاة في أسفل شارع لومبارد، متّخذًا من الشارع خلفية لهما، فهل تخلق شوارع مدننا مساحة للحظات كتلك؟

لمسة الطبيعة: تخلل العناصر الحية

ليست الطبيعة حصرًا على الأشجار. قد تكون في نهر يتخلل المدينة والشارع، في نسمة تهبّ من المحيط، أو حتى في خضرة بعيدة تظهر في نهايته. في القاهرة، رأيت العشاق يجلسون متلاصقين بأزواج آخرين على ضفة النيل في شارع يخلو من المعايير البصرية للجمال: لا أشجار، إضاءة ضعيفة، خصوصية غائبة، ولا شيء يوحي بالشاعرية، إلا أن الحافة الإسمنتية كانت مقعدًا لتأمل انعكاسات الإضاءات وهبوب نسمات لطيفة.

في براغ، وفوق جسر “تشارلز”، اتخذ الفنانون مساحات كمعرض ضخم لأهم أعمالهم، ومرسمًا مؤقتًا مستفيدين من شاعرية المكان وجماله. فمن فوقه يتأملون المارة، السماء، والنهر الذي يبرر تسميتها بالمدينة الذهبية لكثرة انعكاساته. أما في كيب تاون، فكثير من الشوارع تنتهي بمشهد للمحيط، لمعة زرقاء في الأفق، تُحوّل الشارع كله إلى مشهد مؤطر بالطبيعة.

الشوارع التي ذكرناها، بجسورها وأنوارها، أمثلة على تجلّي هذه العناصر الثلاثة. لكنها ليست حكرًا عليها. في كل مدينة، هناك شارع شاعر، فقط لأنه احتوى على الحياة، وتعددت زوايا النظر فيه، وامتزج مع الطبيعة. فهمنا لهذه العناصر يجعلنا نُقدّر تلك الشوارع، ونفتقدها متى ما غابت عن مدننا، ونبحث عنها لنعيش لحظة نرتبط فيها مع أنفسنا أو مع آخر نُحبّه.

0
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

ماذا يعني أن تكون روحانيًا؟
17 آب

|

الروحانيات
وقت القراءة: 5 دقائق
هل تتحدث حبًا؟
2 أيلول

|

العلاقات
وقت القراءة: 7 دقائق
الشقيقات “نعم” و “لا”
9 تشرين الثاني

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: دقيقتين

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً