لـ براءة قنديل
مما لا شك فيه أن هذه الحياة قد صُقلت وصُممت مسالكها لتكون صعبةً ومتقلبةً ما بين صعودٍ وهبوط، خُلقت كرحلة، مؤقتة لا بد لها أن تنتهي يومًا ما، ووصمت بسمة التناقض حيث اشتملت على كل شيء وضده في توليفةٍ عصيةٍ عن الفهم، وقلائل هم من استشفوا معناها وعرفوا سرها على مر العصور وتبدل أيامها منذ الخليقة والإنسان الأول، أدركوا حقيقتها فزهدوا فيها وتوقفوا عن ملاحقتها.
هل تبدو لك هذه الأسطر السابقة كمقدمةٍ فلسفيةٍ عميقةٍ وتقليدية؟
ربما! ولكن لا يمكنك إنكار واقعيتها والحقيقة المحشوة في ثناياها والتي يأبى الكثيرون الإقرار بها، ولم عساهم يقرونها والحياة هي وجهتهم الأولى والأخيرة؟ ولم سيتعبون أدمغتهم في هضم المعلومات الدسمة – رغم كونها من المسلمات الأولى والكبرى للوجود البشري على هذه الأرض؟ أمرٌ عجيب صحيح؟ على العكس تمامًا! إن هذا بالضبط لهو المتوقع والمنتظر من البشر، أن يلهثوا وراء بريق الحياة ويسعوا إلى امتلاك كل ما فيها، فإنه من منتهى الحماقة إنكار ما فيها من الجمال والبهاء والسحر المعقود بالإغراء والغواية، لكنها على الصعيد الآخر قد حُفت بالمصاعب والتصدعات من أجل تحقيق التوازن، التوازن الذي يعيد إلى الإنسان رشده وصوابه، ويكأنها تخبره باستمرار بأن الحياة جميلة حقًا وتستحق أن تُعاش لكنها تفتقر إلى السمو، وما هي إلا دورةُ حياةٍ تنتهي في مكان لتبدأ في مكان آخر.
إنني لا أحاول تبسيط الأمور هنا أو تجريدها من حقيقتها القاسية التي قد تسحق روح الإنسان تارةً وتحيل قلبه إلى رمادٍ تارةً أخرى، فنحن قد خُلقنا ضعافًا يلزمنا دائمًا أن نركن إلى كيانٍ أكبر وأجل منا كأفراد، كالقوة الإلهية السماوية التي لا يضاهيها شيء، ومن ثم اللجوء إلى جماعةٍ من بني جنسنا نشعر بالانتماء إليها، وكلما جرفتنا الحياة عنها أعادنا الحنين إليها لنشد همتنا بها، خُلقنا هكذا نؤسس العلاقات ونبني الروابط ونختزل فيها أطنانًا من المشاعر والتفاصيل والأخطاء والمشاحنات والانفعالات والإرهاصات، ونصنفها بالقرب والبعد والبرود والحميمية حسب رصيدها المتشكل من كل العناصر التي ذكرتها آنفًا، لذلك فإن ألم قطع هذه الروابط قد يفوق آلام الجسد ألمًا وتعبًا ووحشية وخطرًا، فآلام الروح مستعصية الشفاء وتاريخ صلاحيتها قد يتجاوز عقودًا وصدماتٍ وتغيراتٍ وآلام لتغدو علةً مزمنة لا شفاء منها وإنما تعتادها كما تعتاد شرب حصتك اليومية من الماء.
إن أسوأ قطعٍ للروابط البشرية يحدث لتلك التي تتوقف عن كونها مزيجًا من التفاعلات، وتغدو فقط حقيبة ثقيلة من الذكريات، الصلات التي تجمع بين حيٍ يتنفس لكن تغادر الحياة قلبه كل يوم وبين ميتٍ صار التراب مسكنه الدائم لكن ذكراه أبقته حيًا وحاضرًا لا يموت، تلك هي أشد الصلات إيلامًا لأنها لا تنقطع في حقيقة الأمر، بل تبقى وتدوم وتتضخم في كيان المرء ولكنها تبقى مشبعةً بالغياب وألم الاشتياق المبرح والحنين الذي لا يفضي إلى لقاء، لا شيء يضيف الألم إلى كل جميل غير الفقد، ولا مصاب قد يباغت الإنسان ويفقده إدراكه كالفقد، ولا شيء يؤجج في النفس الهواجس والمخاوف أكثر منه.
فكرة أن تفقد عزيزًا بغتة في دقيقةٍ ستقلب حياتك رأسًا على عقب وتعدك بتغيرها إلى الأبد، وبعد أن شغلتك هذه الحياة التي تشغل المرء عن نفسه في معظم الأحايين، لهي فكرةٌ مرعبةٌ لكن لا مهرب منها، إن لم تفقد أحدًا قط فإنها ستعذبك آلاف المرات قبل فقده، وإن كنت قد عايشت الفقد يومًا وذقت مرارته فسكنكَ كهاجسٍ أبدي يجعلك كالمترقب لكل أحبابه ومقربيه، ولا يسعك سوى أن تتساءل بأن من بينهم سيكون التالي، أجل! أعلم هذا المزيج البائس جيدًا.
ولكن يأبى العقل إلا أن يستطرد، هل قُدر الفقد فقط ليوجعنا؟ هل خلقنا في هذه الدنيا لنتألم وحسب؟
وهنا نعود إلى تناقض الحياة الذي ذكرته بادئ الأمر، حيث يترافق المنح مع المنع دومًا، فلا يمنح الإنسان شيئًا إلا وقد أُخذ منه مقابله، ولا يمنع الإنسان إلا ليمنح شيئًا آخر، وكذا تجري الأقدار، فبالرغم من قساوة الفقد إلا أنه دائمًا ما يأتي لحكمةٍ ومغزى يربطان على قلوب وأرواح المفجوعين بخسارة أحبائهم، قد يكون الموت راحةً من مرض أو حماية من فتنةٍ قُدر للمرء أن يصاب بها ورُحم منها، بل وقد تكون تنبيهًا من غفلة أو محفزًا لتغيير أو توجيهٍ لطريقٍ جديد، ومتى ما عُرفت هذه الحكمة خفت وطأة الألم وبدأ السلام يتسلل إلى القلوب، ولكن يبقى الحنين وألم الفراق حاضرين لا ينسيان، يحلان دومًا في روح الإنسان ويظلان مقيمين أبديين، فيختلطان بها ويغدوان جزءًا لا يتجزأ من كيانها.