الحنين ذلك الشعور الجارف المختص بذاته، المفاجئ والغريب، يشدنا دائمًا للعودة، فنحن نسير للأمام بسرعة جنونية، وقلوبنا تَحِنُّ للماضي بشكلٍ مُلِّح، كأنها تريد أن تغادر أجسادنا المهووسة بالجري للأمام وتعود هي للوراء، فنحنّ لأوقاتٍ مضت ولأشخاص غادرونا ولأماكن تركناها ولمشاعر لم نعد نجدها. فلماذا يلاحقنا الحنين؟ رغم أننا نتقدم للأمام نحو حياة يُزعم أنها أكثر تطورًا وسعادة.
ما هية الحنين؟
الحنين شعورٌ يمزج الزمان بالمكان بشكلٍ ساحرٍ وفريد، فهو حالة من الشوق الشديد لمحيط مألوف يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأوقاتنا الماضية، وحينما نقول المحيط المألوف، نعني بذلك خليطٌ من الزمان والمكان ينتج عنه حالة موحدة يستعيدها الإنسان بنوع من الشجن والأسى الذي لا يخلو من متعة.
فالحنين باللغة البرتغالية يُعبّر عنه بمفردة شعورية فريدة ليس لها أي وجود في أي لغة كونية غير البرتغالية ولا يمكن ترجمتها، وهي سوداد (Saudade) ويمكن مقاربة معناها بأنه «حضور الغياب لشخص أو لمكان ما أو لشيء ما» وهذا الشعور يمزج النعيم بالعذاب معًا في آن واحد. فالحنين هو حضور طاغٍ للغياب بأشكاله؛ سواء كان الغائب شخصًا أو حالة أو أرضًا.
نوستالجيا، وهي أكثر المفردات انتشارًا للتعبير عن الحنين والعودة للماضي، والمفردة تتكون من كلمتين: الأولى نستوس (nostos) وتعني باليونانية العودة، والثانية ألجوس (algos) وتعني معاناة، إذن النوستالجيا معاناة تسببها رغبة غير مشبعة للعودة. فلماذا ونحن نعيش في عالم حديث يدفعنا دائمًا للتقدم نحو الأمام، نشعر دائمًا بالرغبة في العودة للوراء؟
أليس شعورنا الدائم بالحنين مؤشرًا على أن الإنسان لا يناسبه هذا العالم الحديث؟ لذلك يشعر برغبة دائمة للعودة نحو وقت ما قد مضى أو لشعور ما أو حتى لأرضٍ تركها، إذا ما افترضنا أن الإنسان الحالي لا يكف عن التحرك ومبارحة مكانه وتغييره.
الحنين في مواجهة الاغتراب
يغمرنا الحنين لأن العالم الحديث يُشعرنا بالاغتراب بشكل دائم، ربما لأنه لا يشبهنا ولا نشبهه وكثيرًا ما يدفعنا لمخالفة إنسانيتنا وفطرتنا التي خُلقنا بها، إننا نشعر بالحنين للماضي كرفضٍ لهذا التطور المجهول الذي يدفعنا للاغتراب عن ذاتنا أكثر. فنحن نشعر بالحنين وفاءً لتلك الأوقات التي سُرقت منّا في سرعة دون وعي أو إرادة، فإذا كنّا عاجزين عن وقف هذا التسارع القاسي للزمن فلا سبيل سوى الشعور بتلك الرغبة الشجية للعودة للماضي.
وهذا الهوس بالتغيير والمغالطة بينه وبين التطور على الاختلاف الشاسع بينهما، إنما يذيب حاضرنا ويدفعه للتحول إلى ماضٍ بشكل سريع ربما لحظي، فأنت في المدن الحديثة قد يتغير شارعك الذي تسكن فيه بسرعة لا تتخيلها، ويصبح غريبًا عنك، أنت الذي قضيت عمرك فيه.
فنشعر بالحنين لأن الألفة قد غادرتنا، فكل شيء حولنا يتحرك بسرعة قبل أن نألفه، وإذا ألفناه تغير، ففي عالم الهرولة وانعدام التوازن تغادرنا الأشياء بسهولة، تتركنا دون هوادة، وتصدمنا النهايات دائمًا قبل موعدها، فإذا كان الأساس هو تحطيم كل ما هو مقدس، فلا بقاء ولا ترابط ولا احترام للشعور الإنساني. لذلك يعمل الحنين كبديلٍ عن تلك الوحشة الناتجة عن غياب التآلف بيننا وبين الأشياء من حولنا.
الحنين إنقاذ للروح الحديثة
نشعر بالحنين حينما لا نرتاح في وضعنا الحالي، فنَحنّ لأوقاتٍ كانت تمر علينا بشكلٍ أفضل، قلوبنا فيها كانت على أفضل حال. الحنين في عالمنا الحديث بمثابة حصن نلوذ إليه فرارًا من واقعنا، لا سيما تلك النفوس المعذبة والتي تعاني من فقد أو خسارة أو تتعرض لوضع يصعب احتماله، فالحنين يعزز الصحة النفسية ويرفع من قدرة الإنسان المُعرض لخطرٍ نفسي على التكيف مع هذا المحيط الذي يؤذيه، ونحن اليوم كثيرًا ما نُجبر على العيش في محيط يؤذينا أو في وضع لا يريحنا، لهذا يكون الحنين علاجًا للروح الحديثة التي تواجه خطرًا نفسيًا وهذا ما تؤكده دراسة حديثة في مجلة بوصلة علم النفس الاجتماعي والشخصي، فالدراسة تنفي الاتجاه القديم الذي يُعرّف الحنين كشعور سلبي يسبب ضائقة نفسية، وتؤكد أن الضيق النفسي هو ما يدفع المرء للحنين، وأن الشعور بالحنين هو شعور إيجابي على الأغلب، يحسن من صحة الإنسان النفسية، وأن الحنين ليس مرضًا مثلما تم توصيفه قديمًا، إنما المرض هو نقص الحنين.
يلاحقنا الحنين في حياتنا اليومية كمقاومة للشعور بالوحدة، ففي عالمٍ يدفعنا دائمًا للتمحور حول ذاتنا ويعزز المركزية الذاتية، كثيرًا ما يشعر فيه الإنسان أنه وحيد، وأن كل هؤلاء الذين يحتشدون حوله من أناس إنما يهتمون به بشكل سطحي من أجل المنفعة المتبادلة وفقط، وهنا يأتي دور الحنين إلى الماضي، فينتزع الإنسان من وحدته عبر تحسين التصورات الاجتماعية، فالشعور بالحنين ينقذ الإنسان من الغرق في ذاته والاهتمام المبالغ بها، لأن الحنين للماضي غالبًا ما يكون باتجاه أشخاص أو أحداث مهمة في الحياة، والتي غالبا ما ترتبط بالآخرين ولا تتمركز فقط حول الذات، وهنا يؤكد الباحث وايلدسكوت أن «الشعور بالوحدة يدفع الإنسان للحنين للماضي في علاقة مترابطة وثيقة، وأن هذا الشعور بالحنين يخفف من وطأة الوحدة على النفس».
وفي تجربة مثيرة، قام الباحث روتليدج وآخرون بإحداث حالة من انعدام المعنى تجريبيًا من خلال جعل المشاركين يقرأون مقالا فلسفيًا حول كيف أن البشر على المستوى الكوني هم ذرات تافهة من الغبار، كما قرأ المشاركون الآخرون مقالة محايدة عن حدود تكنولوجيا الكمبيوتر، أبلغ المشاركون في حالة اللامعنى عن مستويات أعلى بكثير من الحنين إلى الماضي مقارنة بتلك الموجودة في الحالة المحايدة. وهكذا تثبت تلك الدراسة أننا نندفع نحو الحنين للماضي حينما نفقد المعنى فيما نفعله، فيخفف الحنين وحشة الشعور باللامعنى وقسوته على ذاتنا.
فإذا أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن الحنين يحسن من الحالة النفسية ويواجه الشعور بالوحدة كما يخفف من قسوة الإحساس باللامعنى، فيبدو لي الآن أن شعورنا بالحنين بمثابة فعل يقاوم أغلب الآثار السلبية التي ينتجها العصر الحديث.
دِفء الحنين أمام برودة العالم
الإنسان يُحب كل ما هو دافئ وينجذب إليه، سواء كان الدفء في حديثٍ أو شعورٍ أو بيت نمتْ فيه الذكريات، فنحن البشر مخلوقات دافئة، تشع حرارةً كما تتعبها البرودة وتمرضها، والبرودة هنا مجازية وحرفية؛ برودة العلاقات والأماكن والأحداث، وبرودة الجو المحيط، ولا شيء يشع حرارة مثل الحنين لماضٍ جميل، فدفء الحنين يمد القلب بالحرارة حينما تُرجفه البرودة وتضنيه.
لعلك تتعجب، لماذا تحديدًا في أقسى ليالي الشتاء برودةً تحن للماضي وللذكريات؟ لماذا تنتابك تلك الرغبة في العودة للوراء، كلما أمطرت الدنيا وعصفتْ الأجواء؟ الإجابة هو أن ذلك الشعور الساحر المسمى بالحنين يمد الجسد بالحرارة فعليًا، وهذه حقيقة علمية مثبتة.
فهنا تجربة أدهشتني تثبت أن الحنين يُعادل درجة حرارة الجسم الداخلية، ولهذا نندفع للحنين إلى الماضي حينما نشعر بالبرودة، وأن هؤلاء الذين يشعرون بالحنين تزيد قدرتهم على تحمل البرد الضار.
وهذه الدراسة المدهشة التي تثير طرح الأسئلة وتفتح مجالًا للبحث والتدقيق، ذهبت إلى أنه من الوارد أن يؤثر الحنين على الإحساس بالجوع والعطش، بالأخذ في الاعتبار أولئك الناجين من معسكرات اعتقال، فعلى ما يبدو أن الحنين للماضي يخفف ولو مؤقتًا الإحساس بالجوع، وهنا يتحول تأثير الحنين الواسع والساحر من النفس فقط إلى الجسد أيضًا.
حنين مزيّف
مأساتنا أننا نَحِنُّ لأشياء لم تكن موجودة في الأصل، فالخيال حيلة المعذبين للنجاة من الواقع، والحنين الزائف هو تدخل الخيال لتجميل صورةٍ في الماضي لم تكن على هذا الجمال، وربما خلق لصورةٍ جديدة لم تكن موجودة في الأصل، وخطورة الحنين المزيف في أنه يقودنا لأن نعود للوراء؛ نحو علاقاتٍ لم تكتمل، أو أماكن غادرناها أو لإعادة أحداثٍ بعينها، فيصدمنا الواقع مرّة أخرى، ويقودنا سوء التقدير واستسلامنا للحنين الزائف لتكرار مآسينا مرّة أخرى.
فالحنين شعور عفوي يغالب القلب بشكل مفاجئ، لا يمكن اجتراره، وأن كل تهيئة للنفس لكي تشعر بالحنين إنما هو الدفع نحو تزييف الشعور بالحنين. ربما لأن الحنين يلعب دورًا مهمًا للغاية في عالمنا الحديث، لذلك أولئك الذين يعانون من نقص فيه يلجأون لاختلاقه.
الفرق ما بين الحنين والشوق
نعم بكل تأكيد هناك فارق ما بين الحنين والشوق، فالشوق مرارة ولوعة، فأحيانًا يشتاق الإنسان لحبٍ قديم آذاه وعذبه ونجا منه بأعجوبة، ومع ذلك يغمره الاشتياق إليه، فالشوق يعتبر نوعًا من الألم يصيب الإنسان، أما الحنين فهو شعور إيجابي نحو شيء جميل، تشعر بحزن وشجن لأنه مضى وانقضى، وتود لو أن تعود مرّة أخرى نحوه، وكما أسلفنا الذكر يحمل الحنين متعة خفية، وتلك المتعة لا تكون أبدًا موجودة في الشوق.
في النهاية يغالبنا الحنين بقوته الساحرة، يهطل على قلوبنا كمطرٍ صيفي مفاجئ، يثيرنا الماضي فنرغب بشدة للعودة، وتصبح العودة بشكلها المجرد شديدة الإغراء، ويكمن سبب هذا الإغراء في استحالة الحدوث، فلا يمكننا أبدًا أن نعود ولا يمكننا أبدًا أن نوقف هذا الجريان المسعور للزمن الذي يحيل كل لحظاتنا للماضي دون هوادة. فلننعم إذن بالشعور بالحنين كرد فعلٍ شَجيّ على ما يفعله بنا زماننا الحديث هذا.
فلا تهرُب من حنينِك ولا تُشتته، فلتَعِشْهُ بشكلٍ كامل، تحمّل عذاباته لتتذوق متعته، فالحنين علاج لأغلب ما تسببه الحياةُ الحديثة من ضرر لإنسانيتنا.