جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

العمل ليس نفيًا للحياة

لذلك للعمل ميزان حساس، فالإفراط به يتحول لهوس يصعب التخلص منه، والانفصال التام عن العمل وغياب المعنى فيه يصيبنا بالارتباك والإحساس بالفوضى والفراغ.

وقت القراءة المتوقع: 10 دقائق
[gpd]

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

بدعم من

نقضي أغلب أوقاتنا في الحديث عن العمل، فنتحدث عنه ونحن في فترة الدوام، ونتحدث عن عمل اليوم التالي بعد الدوام، نتحدث عنه في أوقات إجازاتنا، ونتحدث عنه مع القريبين ممن يهتمون لأمرنا، فنشتكي لهم من أعمالنا أو نمدح ما قمنا به خلال العمل، وأيضًا نتحدث عنه مع الغرباء، فنعرّف أنفسنا من خلال ما نقوم به من عمل. 

العمل يأخذ الحيز الأكبر من حياتنا، لأنه لا يحدد فقط بالوقت اللازم لإنهائه، بل بمدى تأثيره علينا وتأثيرنا عليه، فلا يكاد يخلو أي حديث متواصل من مواضيع تخص أعمالنا. فهل العمل مأساتنا في الحياة الحديثة؟ أم أنه وسيلة للترف وإشباع حاجتنا التي باتت بلا نهاية؟

 

صورة العمل المشوهة

الناس لا يكفون عن الحديث وإسداء النصائح بطلب أو بدون، فالإنسان يتحدث بعين تجاربه، وعبر منظور تكوّن مما مرّ به في حياته الشخصية، فيصوغ ما وصل إليه من معانٍ كأنها الحقيقة المطلقة، وهنا مكمن انتشار الصور المشوهة، فالإنسان يخطئ حينما يفترض وصف الآخر للحياة على أنها حقيقة الحياة كلها وليست مجرد خبرته هو عن حياته فحسب.

لذلك من يعاني في حياته بسبب عمله سيعرّف العمل على أنه المأساة في الحياة، ولكم ستكون الحياة جميلة بلا متطلبات العمل، هذه نظرته الناتجة عن اختياراته وعما مرّ به في حياته، ليست تعريفًا مطلقًا للعمل. ونحن نتبنى الكثير من الصور المشوهة عن العمل بسبب تعميم مآسي الآخرين على أنها مآسٍ مكتوبة على الجميع في الحياة. وفي الحقيقة لكلٍ مساره المختلف عن الآخر، نحن نسمع للآخرين، ونهتم بخبراتهم حتى نوسع مداركنا، ولكي نتعلم التصرف إذا ما قابلنا مواقفًا مشابهة ومماثلة لما مرّوا به، لا لنطبق ما يقولونه حرفيًا على حياتنا عنوة، فلكل إنسان حياته التي هي نتاج عن أفكاره المحيطة وأهدافه وطموحاته، والعمل هو طريقة خاصة للحياة، يختارها كل إنسان وفقًا للكيفية التي يريد أن يمضي بها حياته. 

العمل ليس مأساة في المطلق، ولكن هذه هي الصورة المشوهة الغالبة والتي تنتشر كلما تبناها شخص آخر، فتتحول خبرة الإنسان المفرد الذي عرّف العمل على أنه مأساة لواقع يعيشه الكثيرين غيره.

 

كيف يتحول العمل لمأساة؟

تبدأ مأساتك مع العمل حينما تختار أو تجبر على عملٍ تكرهه، ولا تجد أي رابط يربطك به بشكل شخصيّ. نحب عملنا حينما ينفذ إلى داخلنا، فيلمسنا ما نقوم به ونتفاعل معه كليًا، حينها نتميز ونتفرد وننتج عملا مميزًا، أداؤك لعمل تكرهه أو لا تحبه انقطاع للتواصل بينك وبين ذاتك، حينها ستقوم بالعمل مكرهًا، تمنّي نفسك بالانتهاء منه أو التخلص منه، فيصبح إنتاجك باهتًا، منقوصًا، فتقلق على مكانتك، وتخاف من الطرد أو من الإفلاس، لأنك تشعر بعدم كفاءتك، ولا تجد سبيلًا لتطوير عملك لأن التطوير يتطلب طاقة كبيرة ليست عندك، هنا تكمن المأساة حينما تعلق في عمل لا تحبه، فلا تستمتع بأدائه ولا تتميز فيه وبالتالي لن يأتي لك بعائد مادي كبير، وسينتهي بك المطاف تلعن منظومة العمل كلها.

 

مالا يقوله أحد لك ألا أحد يكسب مالًا حقيقيًا من عمل لا يحبه! هذه حقيقة جلية فلماذا ندور حولها ونماطل في تصديقها؟

فلكي تربح المال وتحقق مكانة عمل مميزة وفريدة يجب أن تتحمل قدرًا كبيرًا من التعب والكد والفشل أيضًا، فالنجاح في أي شيء هو تراكم كبير للمحاولات والمثابرة على الوصول بغض النظر عن السقوط المستمر والنتائج غير المرجوة، وحتى تتحمل كل هذا وتستمر مع ذلك يجب أن تحب ما تصنعه وتؤمن به، فحينما تحب عملك، يختلف كل شيء، وتصبح إنسانًا خارقًأ قادرًا على تحمل المشقة والخيبات، والنهوض من كل سقوط كأنك لم تسقط، وهذا بالضبط ما يجعلك تصل في النهاية للنجاح والتألق، كما أن كل يوم تقضيه في فعل شيء تحبه ويحمل قدرًا من المتعة إلى نفسك يعتبر نجاحًا في حد ذاته، فلا تنتظر حينها تلك النهاية الدرامية التي يتحقق فيها كل شيء دفعة واحدة.

ولكي تحب عملك يجب أن تشعر تجاهه بقدرٍ من التقبل، فالحب هو إيجاد الرابط الخفي بينك وبين الأشياء من حولك. 

توق الإنسان للمعنى

الإنسان في سعي دائم لإيجاد المعنى في كل شيء في حياته، ذلك المعنى الذي حينما يفقده أو يتوه عنه يشعر بالضياع والارتباك، لأن الحياة بلا معنى هي أساس الأمراض النفسية في هذا العصر. 

إذًا متى يحس المرء بأن لوظيفته معنى؟ يجاوب على هذا السؤال عالم الإجتماع المعاصر والشهير آلان دو بوتون فيقول: «يحس الإنسان أن لوظيفته معنى عندما تتيح له تخفيف معاناة الآخرين أو توليد ما يفرحهم. إن توقنا إلى المعنى في عملنا جزء أصيل من تكويننا لا يقل أهمية عن سعينا إلى المال والجاه.» 

وهنا اتساءل لماذا ينحصر مقياس جودة العمل فقط بحجم العائد المادي منه؟ رغم أننا نعاني إذا ما فقدنا المعنى فيما نقوم به، وأننا بحاجة لمعانٍ نبيلة يتمحور حولها ما نقوم به من عمل يومي، في عالمنا الحديث انتشر الهوس بالمال حدّ تهميش كل القيم الأخرى، ربما بسبب الهوس بالشراء وهذا الارتفاع الجنوني بمتطلبات الحياة التي نعاني منها هذه الأيام، العائد المادي هو مكون أساسي في العمل ولكنه ليس المكون الوحيد! والخلل يحدث حينما يطغى مكون واحد على باقي المكونات.

فالعمل هو طريقتك الخاصة للخلود، فكل الأعمال البشرية تحمل قدرًا ولو ضئيلًا يبقى ضد الزمن، تتركه كبصمة شخصية تدل على أنك مررت على هذه الأرض في يومٍ من الأيام.

 

ميزان العمل الحسّاس 

لاشك أن العمل واحد من مسببات السعادة، لأنه يملأ وقت الفراغ، ويجعل أيام العطل لها معنى، كما أن العمل جزء أصيل من الحياة، ولكن العمل المفرط يفسد تلك الحياة برمتها، فالحياة الجيدة هي مزيج من مكونات عديدة، ويجب أن تتناغم تلك المكونات مع بعضها، ونحن نعيش في عصر الحداثة حيث الخلل يضرب كل الموازين ويفسدها. 

تدفعنا الرأسمالية الجديدة لنعمل بشكل انتحاري، دون توقف حتى لإلتقاط الأنفاس، ربما يكون العمل الجسدي محدد بوقت وساعات محددة، ولكن من يوقف زحف الاهتمام العقلي بالعمل خلال بقية اليوم؟ 

تجعلنا أعمالنا الحديثة في حالة هوس بها، ومع وجود الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية تسلل العمل خفية إلى كل أوقاتنا، فبات من الصعب أن تريح عقلك ولو قليلًا من التفكير المضني في العمل، ففي عام 2002 كان أقل من 10% من الموظفين فقط يتفقدون بريد العمل الإلكتروني خارج الساعات المكتبية، أما في عام 2018 طبقًا للدراسة المنشورة في مجلة ديسنت، فأكثر من 50% يتفقدون بريدهم الإلكتروني قبل مغادرتهم للسرير! 

هذا المؤشر الخطير يشي بالنهج التي تسير عليها الشركات للتوغل إلى عقول الموظفين، والتسلط على خيالاتهم، الآن يرتبط الموظف بشكل هستيري مع عمله في علاقة سامة يملؤها الرعب الصامت الدائم من خسارة الوظيفة، فحينما ينجح العالم الحديث في جعل الوظيفة فقط هي الهوية الوجودية للفرد، يعجز هذا الفرد عن التحرر من وظيفة قد تضر به نفسيًا «أنا لا شيء دون وظيفتي، على الرغم من أنها تقتلني ببطء»، إنه عجز اجتماعي وتعلق غير عقلاني بالعمل، يدعم كل منهما الآخر بشكل غريب.

كما وجد الباحثون في جامعة لندن بعد دراسة 85 ألف عامل، أن هناك علاقة بين العمل المفرط ومشاكل القلب والأوعية الدموية، خاصة اضطراب نبضات القلب (الرجفان الأذيني)، مع ارتفاع احتمال حدوث سكتة قلبية إلى خمسة أضعاف.

لذلك للعمل ميزان حساس، فالإفراط به يتحول لهوس يصعب التخلص منه، والانفصال التام عن العمل وغياب المعنى فيه يصيبنا بالارتباك والإحساس بالفوضى والفراغ. وهذا الميزان شديد الحساسية، يصعب أن تضبطه بمفردك إذا أخرجت خالق هذا الكون من المعادلة، فالإيمان بالله وبأن الإنسان يسعى وفقًا لمقادير الخالق، يتيح لك التحرر من تلك المخاوف على الرزق، وهذا التحرر من الخوف يتيح لك اختيار العمل الذي تحب أن تفني طاقتك فيه، دون الاستسلام لوظيفة أخرى تكرهها. 

 

للاستماع للمقالة

بصوت:

محمد خوجلي

00:00 / 00:00

17
0

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
2 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن النفس
يمكن القول بأننا نصاب بالحنين الاستباقي اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب تسارع رتم الحياة الذي جعلنا على يقين تام بأن اللحظة الراهنة ستمضي بسرعة خاطفة كغيرها من اللحظات

وقت القراءة المتوقع: 10 دقائق
عن النفس
اغمض عينيك لوهلة، استحضر أكبر مخاوفك، واقرأ، أعلم أن الأمر سيكون مزعجاً وخانقاً، لكني حقاً أحاول أن أكون قريبة منكم في كل فكرة أكتبها وأشاركها..

وقت القراءة المتوقع: 30 دقائق
عن العلاقات
«نمجد في هذا العصر قيمة فن قطع العلاقات والابتعاد عنها بشكلٍ يفوق بكثير فن إقامة العلاقات» - زيجمونت بومان

وقت القراءة المتوقع: 8 دقائق

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً