نقطة البداية:
جلست الساعة الحادية عشرة صباحًا، في يناير الرياض شديد البرودة، أراقب هطول المطر الغزير من خلف زجاج المقهى. ولولا تضوِّع رائحة الشاي والكبدة والبيض في المكان لاستحال تمييز الصباح من الليل، فالسماء أمطرت وكأن سدًا مغلقًا منذ آلاف السنين فُتِح فجأة. كنت جالسًا في مقهى الحضارة وخلال جلستي الممطرة تلك أنهيت مسودة روايتي الأولى. في لحظة الإنهاء نفسها عرفت، محبطًا، أنّي لن أحتفظ بحرفٍ واحد من الـ (21) ألف كلمة التي قضيت الشهرين الماضيين في إنجازها. وهذا ما حصل، فما إن أذّن المؤذن لصلاة العشاء إلا والمسودة في سلة المحذوفات.
حذفي لها ليس اعتباطيًا ولا اندفاعيًا، فما فعلته يفعله كل شخصٍ في رحلة بحثه عن العمل الكامل. أما تلك المسودة فحُذِفت لأنها لم تساعدني في رحلة بحثي عن الكمال المنشود. يذكرني بحثي هذا بالعرب وطائر العنقاء -وهو مخلوقٌ خرافي عظيم أطلق عليه العرب القدامى هذا الاسم لطول عنقه- فاحتمالية وصولي إلى الكمال لا يقل عن احتمالية امساكهم بالطائر.
التوقعات ومطاردة الكمال
جميعنا نرجو وصول أعمالنا مهما كان جنسها، إلى نقطة الكمال حيث لا تحتاج بعدها إلى تطوير. وهذا الرجاء يصطدم بحقيقتين لا جدال فيهما: الأولى هي أن الأحياء -وأعمالهم- في تغيرٍ مستمر ولا ساكن إلا الموتى، وهذا معناه أننا لن نصل إلى نقطةً نهاية لا نحن ولا أعمالنا. والحقيقة الثانية هي إصرارنا الدائم والأبدي على مطاردة الكمال. وبسبب هاتين الحقيقتين تمر كل الأعمال الإبداعية بالروتين التالي في دورة حياة إنجازها.
دورة حياة المسودة الإبداعية:
الرفض
بعد الانتهاء من عملي المعيب أفصل نفسي عنه وكأنه لا يعنيني، فلا أعود لقراءته ولا أفكّر فيه حتى؛ فإذا لم أقرأه لن أكشف عيوبه.
في هذه المرحلة أنا هشٌ كطفل، ومراجعتي للعمل مهلكته، بل كل ما أفعله -عوضًا عن القراءة والتعديل- هو شرح الفكرة برومانسية للمحيطين بي متجاهلًا عيوب التنفيذ، فأقول ما حلمته أن يكون لا ما هو فعلًا، خالقًا منه نسخةً خياليةً كاملة لا وجود لها إلا في عقلي.
الغضب
لكني وإن كنت هشًا فأنا لست بساذج. وخلف ذاك الحديث الرومانسي والتقريظ يختبئ تمثال عملي المشوه المليء بالعيوب التي لا يستطيع غروري جلبها للسطح بعد.
أشعر بنقصٍ عميق لأني أعرف أن تمثالي القبيح يختبئ خلف نسخة العمل الخيالية المبنية على رفضي فكرة وجود عيوبٍ في عملي. تمثالي الصغير قبيح وما زال يحتاج للتشذيب، لكن أنّى لي إخبار نفسي بهذا وأنا من قضى الساعات في نحته وعنايته؟
وهذا كله لا يكفي، ففوق فورة غضبي ينمو إدراك في أعماق لا وعيي، إدراكٌ أن تمثالي قد لا يصل إلى الكمال إطلاقًا. ويتعملق النقص حتى أشعر أني لست أهلًا لممارسة صنعتي مجددًا.
المساومة
أفكر، لأحارب شعور استحالة وصولي للكمال، بالأعمال التي أظنها ستأخذ أعمالي إلى وجهتي الأثيرة حيث لا عيوب، وأحدّث نفسي:
لو سرقت تعبيرًا فصيحًا من رواية موت صغير، وأضفت حوارًا ظريفًا من رواية لنجيب محفوظ، وأخضعت حبكتي لنموذج ستيفن كينق المشوّق، ستصل قصتي إلى الكمال!
يا عبقريتك يا محمد أنت وأفكارك الساحرة غير الواقعية!
حينها تتشكل فكرة الكمال في عقلي مجددًا وتتحول من خيالٍ مستحيل إلى طائرٍ طويل العنق أراه رأي العين!
الإحباط
لكن بعد عدة جلسات تسحق الروح استوعبتُ الحقيقة الشجنة، هذا العمل لن يخلو من العيوب، فالتعديل الذي يحسّن منطقة أضحى خراب أخرى، وذاك الخيال ليس طائرًا إنما هو كما كان دائمًا، مجرد خيال. بل ولو أعاد شيكسبير ذاته كتابة روايتي لما استطاعت الكمال.
ثم استوعب ما يأخذ بيدي من هذه المحطة إلى المحطة الأخيرة وهي أن أحدًا لم ولن يمسك بالعنقاء.. حتى شيخ الكتّاب نفسه.
القبول
جلست الساعة الحادية عشرَ مساءً، في أكتوبر الرياض شديد العذوبة، أراقب طفلةً لم تتجاوز الثالثة تستلقي بكسلٍ في الطاولة المقابلة لي. وضعت يدي أمام وجهي وأزحتها عدة مرات حتى استلطفتني وأصبحتْ تنتظر حركتي بطرف عينها مع نصف ابتسامة جعلتها تبدو أكبر من عمرها. أراقب الطاولات المشغولة في المقهى. أتخيل رواده نقّادًا شرسين وأشعر بالرضا عن عملي حتى مع انتقاداتهم المتخيلة، فبعد نجاة الرواية من المحطات السابقة ووصولها إلى هذه المحطة لم يعد هُناك ما سيوقفها.
حدث ذلك في مقهى كوبي المكتظ بالناس، وخلال جلستي المختنقة بالناس تلك أنهيت مسودة روايتي الخامسة، بعد (10) أشهر من كتابة المسودة الأولى المحذوفة.
ارتفع منسوب رضاي عن روايتي كثيرًا مقارنةً بالمرة الأولى. وبطريقةٍ متوقعة دون خلوها من غرابة صرت أملك رؤيةً أفضل عن عيوبها، وهذا ما جعلني أقتنع وأرضا أخيرًا باستحالة وصولها إلى الكمال. وهذا ليس الاستنتاج البديهي الذي قد تظنه، فرغم معرفة كل فردٍ منا باستحالة وصولنا لنقطة الكمال إلا أن قليلٌ منّا من يطبق هذه المعرفة في عمله، وخصوصًا عمله الإبداعي، فعندما نشرع في عمل ما يصيبنا فقد ذاكرةٍ اختياري.
أما أنا فقومّت كل العيوب التي أستطيع تقويمها -لأن استحالة خلو عملٍ من العيوب لا يعني الاستسلام لوجودها- وتقبّلت ما يرفض التقويم، فالآن بت أعرف ما كنت أعرفه وأرفضه، وهو أن الكمال كالعنقاء.. لو أطارده طيلة عمري لن أمسك به.
بل أبعد من هذا، لو وصَل عملٌ يومًا إلى نقطة الكمال لما احتجنا الإبداع اطلاقًا. فالكمال ينقض الإبداع وينفي حاجتنا له. والبحث عن الكمال هو فهمٌ خاطئ للإبداع، والفكرة من العمل الإبداعي هي التعبير الإنساني العميق والناقص بالضرورة.
عندما اخترع العرب طائر العنقاء استخدموه للإشارة إلى الحال الميؤوس منه فقالوا: «حَلَّقَتْ بِهِ عَنْقَاءُ مُغْرِبٌ»، (والمُغرب هو البعيد).
وهذا حالي وحالك عندما نبحث عن العمل الخالي من العيوب، نحن البشر المثقلون بالمحاولات القاصرة. لذا حينما تثور على نقصك (بشريتك) في المرات القادمة وتمر بمراحل الحزن أعلاه تأكد من وصولك إلى مرحلة القبول استعدادًا لا لإيجاد ضالة الكمال أخيرًا ولكن للتخلي والرضا عما وصلت إليه. كما قال الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: «الكاتب لا يُنهي روايته أبدًا، ولكنه يقرر التخلّي عنها».