كلما أخذتنا سيولة العلاقات في عصر الحداثة إلى أقصى مستويات الفردانية أتساءل مرة بعد مرّة حول مدى إمكانية التخلي عن الآخر دون أن نتأثر، و هل يمكننا المضي في هذه الحياة دون الاحتياج إليه؟ و يبدو من الصعب العثور على أجوبة في ظل تدفق شعارات الاستقلالية و ما يدعمها من ثورة ذكاء اصطناعي جاءت لتعزز ما قدمته الثورة الصناعية لتقليل الاعتمادية على الآخر حيث باتت تقوم بكل ما يحتاجه المرء.
لكننا في الوقت نفسه نتحدث هنا عن احتياجات حسيّة في الأغلب و حاجيّات من الممكن تلمّسها فمعظم ما قدمته الثورة الصناعية جنبًا إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي تمثل احتياجات جسدية من ملبس و مأكل و رغبات و احتياجات مادية كذلك الأمر الذي يوحي بأن المعركة حسمت لصالحهما و لن يعود للآخر معنى.
في أزمنة بعيدة و قبل أن يلج الإنسان عالم الصناعة بقرون عدّة اعتزل أبو العلاء المعرّي الناس و حبس نفسه في منزله حتى سُمّي رهين المحبسين، ثم قال:
و لو أني حُبيت الخُلد فردًا لما أحببت بالخُلد انفرادًا
استوقفتني هذه الكلمات خاصة أن تنهمر من شاعر اعتزل الناس كأبي العلاء، فكيف يأتينا من اختار العزلة في السواد الأعظم من حياته ليقول أنه لو أعطي الخيار ليخلد وحيدًا دون البشر لما أحبب البقاء منفردًا و حيدًا على هذه البسيطة.
يقودنا هذا البيت الشعري إلى التساؤل حول مدى إمكانية الاستغناء عن الآخر بكافة أدواره و على مختلف المستويات، من أولئك الذين يشاركون في صناعة غذائك في مراحل سلاسل الإمداد المتباينة من البذرة حتى الطبق الأخير إلى أولئك الذين يشاركونك منزلًا واحدًا و تتكئ عليهم.
و بعد مضي قرابة الألف عام من وفاة المعرّي ولد الأديب المصري عباس محمود العقاد و هو أحد أهم أدباء عصر النهضة الذي ما أن تقرأ سيرته الذاتية حتى تعود مرة أخرى متسائلًا و يحضر معها الجواب باستحالة الاستغناء. و تمثل حالة العقّاد وجهًا آخر من الحكاية حيث عاصر التحول الصناعي الكبير إلى جانب العولمة. تلك السيرة التي ذكر فيها العقاد صراحة أنه مجبول على الانطواء حيث قال: “لقد ورثت طبيعة الانطواء عن أبي و أمي، فلا أمل الوحدة و إن طالت …” و أكمل مشيرًا إلى أهمية العزلة لتحصيل المعرفة فقال: “إني أقضي أيامًا بمفردي و أشغل وحدتي بالقراءة والكتابة و الناس لا تقدر على ساعات أو لحظات”. ما يعني أننا أمام من هو انطوائي بالوراثة و من يرى في العزلة فوائد جمّة لكنه اختتم كلماته بأن قال: “.. و إذا كنت في عزلة عن المناسبات، فلست في عزلة عن أصدقائي و إخواني”. و هنا نقف لنتساءل ألا تؤثر هذه الوراثة و هذه القناعات و تمجيد الاعتزال في احتياج العقّاد للآخرين بكافة مستوياتهم؟
الثورة الفردانية والذكاء الصناعي
من رهين المحبسين حتى عباس العقاد نجد أن الثورة الصناعية لم تغيّر شيئًا في الاثنين، كليهما اعتزل بطريقة أو بأخرى و ظل كلاهما معترفًا بأهمية الآخر و محتاجًا إليه، و نحن الآن تحت سطوة الفردانية التي ترافقت مع الذكاء الاصطناعي الذي يعزز بدوره تأمين الاحتياج الجسدي و المادي، فإننا أمام اختبار للروح، و هل تقول كلمتها أم سيكفي التطور الذي نعيشه لإشباعها؟! و هل نحن على استعداد لننسى الأصالة و صوت الطبيعة؟
يبدو لي للوهلة الأولى أن التجربة الإنسانية مختلفة تمامًا عن تجربة الآلات و الذكاء الاصطناعي، فها هي مقاعد الحفلات الغنائية تنفد في الدقائق الأولى من طرحها بالرغم من توفر الأغنيات ذاتها بأعلى جودة ممكنة، لكن دون مؤدٍ حي و دون أرواح تتراقص و تطرب سويًا.
آخيراً
في لقائه عبر إذاعة ثمانية قال الدكتور عمرو عوض الله عالم الحاسوب أن الذكاء الاصطناعي سيقوم بكل شيء تتخيله إلا الأشياء التي لم تبتدع من قبل، فهو قادر على محاكاة مقطوعات موزرات لكن لا يستطيع التفوق عليه. هذا يؤكد بشكل أو بآخر على انحصار التجربة المكتملة في الاتصال مع الآخر و الطبيعة و أن الآلة و الذكاء الاصطناعي لن يؤمنا إشباعًا روحيًا و ربما لو عاد أبو العلاء لما أحب الخُلد فردًا.