أكثر ما يُميّز حياتنا الحديثة هو الترفيه، فنحن نملك دونًا عن كل العصور السابقة تطورًا مذهلًا في طرق وأدوات الترفيه والتسلية، أشياء لم تكن لتخطر في بال أسلافنا، أولئك الذين كانوا يقضون أوقات الصباح في عملٍ مضنٍ وحينما يحل الليل ينامون استعدادًا لليوم التالي. ورغم ذلك نعيش حياةً أكثر مللًا منهم وأقل سعادة.
لماذا نشعر بالملل؟
نشعر بالملل عندما نفقد المعنى فيما نفعله، فيصبح الفعل مُفرَّغًا، نراه بلا جدوى، ثقيلًا على النفس، فحينما نضطر للقيام بأمورٍ لا نحبها ولا نتفهم معناها، نميل لأن نكون أكثر تشتتًا وبلادة، ولا نكون على حالتنا الطبيعية من يقظةٍ وتألق. نحن البشر يؤذينا الشعور بالخواء واللاجدوى، يتألق الإنسان حينما يُستهلك في شيء يحبه، فلا يتعب فيه مهما تَعِب.
نشعر بالملل حينما نقارن أوضاعنا القائمة بأوضاعٍ أخرى أكثر تقبلًا، ذلك الإحساس المضني بأن هناك مُتعًا تفوتنا، وأننا لسنا في الوضع المثالي. وبينما نحن غارقين في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، ومقارنة حياتنا بآلاف الحيوات الأخرى المعروضة بشكل انتقائي للغاية، الحياة تحدث حولنا! فنُفسد أوقاتنا بالمقارنة وتخيل أوضاع أفضل للحظة الراهنة، حينها ننفصل عن الفعل الذي نقوم به، ونسمح للملل بأن يسيطر على حواسنا، يشتت أذهاننا ويحجب عن عيوننا رؤية أيّ جميل أمامنا.
نَمِلُّ أكثر من أسلافنا، لأننا نشعر بالاستحقاق والأفضلية، ولا نؤمن بحقيقة أن الملل جزءًا طبيعيًا من حياة الإنسان، نعتقد أنه بإمكاننا تجنب هذا الشعور، فنحن نملك الكثير من وسائل دفع الملل والتسلية، وحينما لا تجدي تلك الوسائل نفعًا نُصاب بخيبةِ أملٍ هائلة، ونَصِفُ حياتُنا بالتعاسة والبؤس.
نشعر بالملل لأننا نعيش في عصر التكنولوجيا الرهيب، حيث كل شيء متاح، كل شيء على بُعد نقرة إصبع واحدة، تلك الوفرة تُكبّلنا، كما تشتت أذهاننا القدرة الخارقة على معرفة كل شيء في أي وقت، فنؤجل المعرفة لحين الحاجة الملحة لها، نطفئ فضولنا الضروري لتكوين ذواتنا، وبالتالي يتجمد نشاطنا ونُحال مباشرةً إلى الملل، بدلا من الاستغراق في نشاطٍ ما.
نشعر بالملل إذا لم نوظف قدراتنا بشكل كامل، فالإنسان الموهوب يجب أن يستعمل موهبته في حياته اليومية، وكل مهارة نكتسبها يجب أن نستعملها، الإنسان الذي يعيش بنصف قدراته يعيش نصف حياة! والنصف الآخر يملأه الملل والإحساس باللاجدوى.
لذلك الملل ليس شرًا كاملًا، أحيانًا يعمل كإنذار بأننا نعيش حياة لا تشبهنا، نهدر طاقتنا وقدراتنا لأنها لا تُستعمل، يصبح الملل محفز داخلي يدفعنا في كثير من الأوقات للتغيير والإبداع واكتشاف أشياء جديدة حولنا، وللتمرد على ما نكرهه وما يفرض علينا ولا نريده.
هربًا من الملل، ولكن إلى أين؟
في عالمنا الحديث، لا شيء نهرب منه أكثر من الملل، نلوذ منه فرارًا، نغمر أنفسنا بالأجهزة المسلية التي لا حصر لها، نحضر الحفلات، نشارك في الألعاب، نسافر ونغيّر أماكننا مرارًا، نُجرب أطعمة جديدة، ونبالغ في الملذات؛ نصعد الجبال، نطير في الهواء، وفي النهاية نجد الملل ينتظرنا كقدرٍ نافذ، نهرب منه في مسار دائريّ يوصلنا دائمًا إليه. فكلما كانت أمسياتنا مثيرة كانت أوقات الصباح مملة بنفس القدر.
نحن نعتقد أن الملل هو نقيض السعادة، تلك التي نبحث عنها دائمًا، ونحاول جاهدين الحصول على أكبر قدر منها، فنعيش في حياتنا كبندولٍ يتأرجح بين الهرب من الملل والبحث عن السعادة، ولكن دعني أقول لك أن نقيض الملل ليس السعادة ولا السرور وإنما الإثارة، فحينما نهرب من الملل طلبا للإثارة لا تكون النتيجة بالضرورة هي الشعور بالسعادة، فالإثارة لها نفس طبيعة عمل المخدر، تُخدّر إحساسنا فلا نشعر بالملل مؤقتًا، القليل من الإثارة مهم، ولكن حينما نستسلم لها ونطلب المزيد والمزيد دون توقف، يقتصر اهتمامنا بالمتعة التالية فقط وليس إلى الإنجاز البعيد الذي يتطلب مجهود طويل ومثابرة. نحن عبر المتع اللحظية نُغذي دواخلنا بما يسمى «مشاعر الصدمة»، تلك المشاعر التي تظهر في لحظة، تنفجر على شكل صاعقة، تتركنا في حالة من الانفعال والنشوة، مملوئين بلذةٍ غامرة، مدفوعين لفعل شيء ما لا ندرك كنهه، لأن مشاعر الصدمة خُلقت لدفع الإنسان للتحرك بسرعة ودون تفكير مسبق، كاستجابتنا السريعة حينما نتعرض لخطرٍ مفاجئ، لكنها في النهاية قليلة العمق، سريعة الزوال، لا تبقى طويلًا في الذاكرة، لذلك حينما ينتهي الإنسان من تلك المتع اللحظية، يُترك في حالة من القتامة وعدم الرضا، ويجد مللًا مُستفحلًا، مازال موجودًا في انتظاره، لأننا نهرب من الملل باتجاه خاطئ.
لا يمكن أن نعيش حياتنا دون ملل «فكل الكتب العظيمة تحوي أجزاءً مملة، وكل حياة عظيمة تحوي فترت غير مثيرة» كما يصف برتراند راسل، هذه حقيقة يجب أن نتفهمها، فالبحث الدائم عن الملذات وفقط يرهقنا ويجعلنا أقل رضا، متعبين على الدوام، نلاحق شبحًا يتبخر فور أن نصل إليه. إذا كنّا نريد حياةً ناجحةً ومستقرّة، وذات معنى فيجب أن نتعلم تحمّل الملل، والتعامل مع الرتابة كشيء طبيعي في حياة الإنسان بل وضروري في بعض الأحيان، فكل الإنجازات العظيمة غير ممكنة دون العمل المرهق والطويل والصعب، الهرب الدائم من الملل يزيدنا مللًا! اللهاث وراء الملذات والأضواء البرّاقة يشتت حياتنا، يضعف استقرارنا، يغذي أنانيتنا، فنصبح أقل تفهمًا لمن حولنا، حينها نفقد المعنى في الحياة، وهذا يقودنا مرّةً أخرى إلى الملل.
الاتصال بالأرض، حيث ننتمي
نحن مخلوقاتٍ أرضية، فحياتنا جزء من حياة الأرض، إذ لسنا فقط نعيش عليها ونأخذ غذاءنا منها كما تفعل النباتات والحيوانات، بل وترتبط كل أوقاتنا بالأرض وسرعة دورانها حول الشمس، نحن ننتمي للأرض ونرتبط بإيقاعها البطيء، أجسادنا تكيفت عبر العصور مع هذا الإيقاع، والانغماس الكامل في الحياة الرقمية والطرق السريعة والمباني الاسمنتية الهائلة، يفصلنا عن حقيقة الأرض التي هي حقيقتنا، فنعيش بوتيرةٍ متسارعة لا تناسبنا. أي فعل يقوّي الاتصال بالأرض يشعرنا بلذة باقية، لا تنتهي بانتهاء الفعل، فالسعادة التي تأتي من تأملنا لاخضرار الريف، اتساع الصحراء ونعومة الرمال، تداخل ألوان السماء، صوت حركة البحر، سعادة بدائية وبسيطة وهائلة، تملأ دواخلنا بشيء مُرضٍ للغاية، نظل نشعر به حتى بعد انتهائها.
الملل الذي نعانيه في عالمنا الحديث، مرتبط بانفصالنا عن حياة الأرض وتفهّم إيقاعها الذي هو بطبيعة الحال الإيقاع المناسب لنا، فالخريف والشتاء ضروريان كالربيع والصيف، والراحة ضرورية كالحركة. لذلك نحن بحاجة لإعادة الاتصال بالأرض، حتى نقوّي ارتباطنا بالحيز الذي ننتمي إليه فنفهم ذاتنا أكثر، ومن ثَمَّ نُقاوم الملل عبر إثراء المعنى في حياتنا.