جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

الدوران نحو مسقط رأسك
5 أيار
الأدب والفلسفة

الدوران نحو مسقط رأسك

5 أيار

|

الأدب والفلسفة
بدعم من

يولد كل إنسان في بقعة محددة على وجه الأرض، وغالبًا ما يستقر في ذات المكان في أول فترات حياته، وأحيانًا إلى آخرها، حيث يبني علاقاته، يشيّد منزله، ويحفظ طرقاته عن ظهر قلب. لكن في مرحلة ما، قد يضطر المرء إلى مغادرة مسقط رأسه أو المكان الذي وُلد فيه لأسباب شائعة، مثل طلب العلم واستكمال دراسته الجامعية، أو طلب الرزق والبدء في وظيفة جديدة خارج مدينته.

دوافع المضي بعيدًا 

الانتقال خارج المدينة الأصلية يرتبط بعدة أسباب. فقد نُشرت دراسة بعنوان “من يعود إلى مسقط رأسه؟” تناولت أسباب المغادرة والعودة، حيث تؤثر العوامل الاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير على قرارات الانتقال. فمن الناحية الاجتماعية، يميل الرجال إلى المغادرة أكثر من النساء لاستكمال دراستهم الجامعية، كما أن ذوي الدخل المرتفع والآباء المثقفين علميًا هم الأكثر ميلًا إلى مغادرة بلدتهم الأم. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر الترابط العائلي، مثل العلاقة بين الوالدين ووجود الإخوة، من العوامل المؤثرة في هذا القرار.

كما يشير جيفري أرنيت، أستاذ علم النفس بجامعة كلارك، في كتابه إلى أن البعض يغادر مدينته فقط لأنه يشعر بأنه أصبح ناضجًا، ويرى أن الانتقال بعيدًا لا ضرر فيه لإثبات البلوغ والاستقلالية. ولا نغفل أن الزواج وتأسيس عائلة جديدة يُعد سببًا رئيسيًا آخر لمغادرة المدينة.

وفي الواقع، ليس غريبًا أن يسعى الإنسان إلى الأفضل، سواء لتنمية نفسه أو بناء مستقبل مشرق يتطلع إليه، مما قد يدفعه للمغادرة، سواء برغبته أو اضطرارًا.

مغادرة المدينة الأصلية هي النتيجة النهائية باختلاف الأسباب، فما الذي قد يدفعهم إلى العودة بعد أن تركوها خلفهم؟

الارتباط مع المدينة الأصلية 

للعودة شعور إيجابي على الصحة النفسية للأشخاص، فهي تمنحهم استرجاعًا لشعور الألفة الذي اعتادوا عليه في تواجدهم السابق. فالعلاقة الوطيدة مع الأهل وأهل المدينة الأصلية تدفع الكثيرين للعودة، وحتى الانتماء للمدرسة والمجتمع بحد ذاته. تلك الروابط الوثيقة والصادقة، التي بُنيت منذ نعومة الأظافر، لم تتأثر مكانتها رغم المسافات، بل صارت سببًا لجعلها تقصر عند نقطةٍ ما، فيعودون في الأخير. أما الذين يغادرون في سن صغيرة، فيقلقهم الاشتياق والحنين لبلدتهم. فالحنين في نهاية المطاف هو ما يجعل المرء يجد طريقًا للالتفاف والعودة إلى بلدته، حيث قضى فيها سنواتٍ من حياته. هناك، ترافقه ذكريات مليئة بالدفء، بين لعبٍ ومرح، متعةٍ وبكاء، حزنٍ ويأس، وأمل. فكل زاوية تحمل ذكرى كانت يومًا إما حلوة أو مرّة، ولكن مع مرور السنين تستبدل مشاعرها اللحظية بالحنين الذي يبقى أبديًا. وقيل: “يَتروّح العليل بنسيم أرضه كما تتروّح الأرض الجدبة ببلل القطر.” 

ولنا في التاريخ العربي أمثلة كثيرة على شعراء غادروا ديارهم ثم تغنوا بها؛ فمنهم من عاد شعره فقط، ومنهم من عاد برفقة شِعره. كان الحنين هو ما حرّك ألسنتهم وخطّ أشعارهم. تركوا الصحراء بشدة حرّها وقلة مائها، متجهين إلى بلادٍ خضراء نضرة يجدون فيها ما ليس في الصحراء، لكنهم مع ذلك يحنّون إلى حرّها وجمالها وقلة مواردها. من الطريف أن ثلاثة من الإعرابيين اتفقوا على شوقهم لتناول الضب حينما سُئِلوا عن أكثر ما يفتقدونه خارج بلادهم. ولا شك أن البلدات الأصلية تحتضن من يحبّه القلب ويهواه، ولها في قلوبنا مكانة أعظم، كما أنشد ابن سكر: “ألا يا حبذا وطني وأهلي وصحبي حين تذكرني الصحاب.”
فمهما كان مناخ مسقط رأس المرء أو تضاريسه أو موقعه، يبقى مرتبطًا به، يعتبره جزءًا لا يتجزأ منه وإن ابتعد عنه، ولا ينفك عن ذكر أوقاته ورفقته فيه.
فالشوق والارتباط بالبلدة الأم، يرافقاننا نحن العرب منذ القدم، مهما تغيرت أحوال معيشتنا.

مسقط رأسك مصقل شخصيتك 

هذا الحنين والاعتزاز بمسقط الرأس ينبع من كون البلدة الأم هي التي تشكّل شخصية الإنسان. فهي نافذته الأولى على العالم، يراه من خلالها عبر المكان المحيط به، الأشخاص الذين يشاركهم الحياة، والمستقبل الذي تتيحه له. وأقرب انعكاس لهذه العلاقة يظهر في تنسيق المنازل، حيث يعكس كل منزل ذوق صاحبه الخاص. وبالمثل، فإن مدننا تنعكس على شخصياتنا؛ فالمكان الذي ننتمي إليه يحدد هويتنا، وهويتنا تجعلنا نشعر بالانتماء إلى كل الذكريات المرتبطة به.

مكانك لا يحدد فقط هويتك، بل يشكّل أيضًا إطار علاقاتك، ويصقلها بحدود واضحة. ومن خلاله، تتطوّر هذه العلاقات مع الآخرين خارج البيئة المحيطة. وغالبًا ما يغادر الإنسان مدينته عندما يبلغ النضج وتكبر احتياجاته، ليترك وراءه مكانًا كان بسيطًا ومريحًا مقارنة بتعقيدات الحاضر. حينها، يحمل هذا المكان عبق الذكريات والتخفف من الأعباء، حيث كان الإنسان يعتمد على أهله وجماعته الذين كانوا دائمًا قريبين، حتى لو لم يلجأ إليهم فعليًا. مجرد معرفته بوجودهم قربه كان يمنحه شعورًا بالأمان. بينهم، لم يكن بحاجة للتصنع، بل كان على طبيعته، على عكس ما قد يفعله عند مغادرته.

هذا الفقدان للشعور بالراحة والبساطة هو ما يولّد الحنين، خاصة عندما يفتقد الإنسان هذه المشاعر. الروابط مع مسقط الرأس تأخذ أشكالًا كثيرة؛ كروائح الأماكن، والأحاديث الجانبية، وحتى الأحلام التي شُكّلت خلال الطفولة والشباب، حيث كان الإنسان يحلم بتحقيق طموحاته وكيف ستغيّر حياته.

والجدير بالذكر أن هذه الروابط التي ارتبطت بالإنسان دون وعي في الماضي لا تنقطع بخروجه من مدينته. بل تستمر في ملاحقته، ما يدفعه للبحث عنها في كل مكان جديد يذهب إليه. قد يظهر ذلك في تعليقة أو صورة، أو حتى في تصميم مدخل بيته وخلفية هاتفه. تصبح هذه الروابط عنصرًا جذبًا يعيد الإنسان دائمًا إلى مسقط رأسه، حتى لو غادره. فالمكان الذي تركه لا يغادره أبدًا، ولهذا يعود إليه مرارًا، بحثًا عن الراحة واستعادة ذاته في أحضان ذكرياته.

2
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

الركض للتغلب على الألم
14 أيار

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق
الإنسان والطبيعة
27 كانون الثاني

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 15 دقيقة
هوسنا بالمال
7 آذار

|

المال والأعمال
وقت القراءة: 4 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً