جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

هل نرتبط حبًا أم خوفًا؟
29 أيلول
النفس والعاطفة

هل نرتبط حبًا أم خوفًا؟

29 أيلول

|

النفس والعاطفة
بدعم من

مالم تقله الأساطير عن الحُب

ربما كنتُ قد وجدتُ ضالتي في فكرة الارتباط سابقًا أثناء نشأتي، منذ أن أدركتُ مقاربات الروايات والأساطير من حياتنا، ربما في كتاب حكايات أفروديت للكاتبة إيزابيل الليندي، أو حين قرأتُ رواية سقف الكفاية وصوفيا لمحمد حسن علوان، أو الزهرات الثلاث (الزرقاء،الحمراء،السوداء) لنورا روبرتس.
هكذا، ببطء ووداعة، صوّرتُ أبعادًا لاحتمالية مضيّ شخصين بجانب بعضهما البعض لما تبقّى من أعمارهم، تلك الأبعاد التي لم تكتفِ في اتساعها، ولم تكتمل حتى الآن.
تمامًا كما وجدتَ أنت ضالتك في احتمالية وجودك بجانب جسدٍ آخر، في لحظات مبعثرة من حياتك، حين أشار إليك المقعد الفارغ بجانبك بأنك شخصٌ يقبل الجلوس بجانب أحدهم.
مقعدٌ لا يُرى سوى في ذهنك، راسمًا له حدودًا تقيم قصة حُبٍ استثنائية لا عواقب فيها تطارد أيامك اللاحقة لانكشاف عيوبك وأخطائك أمام الآخر، مُقرّا بصحة منحك إياه المقعد، وأن لك كامل الأحقية في نيل هذا اللطف والافتتان والغفران لبقية عمرك، غيرَ ملزَمٍ بالتباهي بصورة الحُب، تلك التي تُعرِّفُك على مشاعرَ تختبرها للمرّة الأولى، وقد تقبل، في لحظة تهوّر، أن يأسرك دفءُ وجوده. لا يهمّ كيف تستمر قصّتك معه، ولكن يهمك وجوده بجانبك، قانعًا بصورٍ عديدة تقع فيها بحبّه، مترفًا بمسرّات تعتقد بأنها لا تنتهي، بالرغم من أنها لا تقدم لك برهانًا على استمراريتها.

ومع كل تموجات الوَلع التي أحاطت بنا، ندرك لاحقًا خوفًا مبطّنًا في أذهاننا، ربما من ذاكرة تثور بداخلنا عن صور الوحدة التي نتخيّل أن يفضي إليها مستقبلنا، مفلسون من كلّ النواحي، محبةً ورِفقة، خاوون من دوافعٍ نستأنس بها كِبَرنا، فاقدون للسيطرة على ما اخترناه برغبتنا، وقد نفدت منّا فُرص الحياة، مكبّلون بالأخطاء، وبالغضب جرّاء أمور نراكمها في تصوير حياتنا مع الآخر، متوجّسون من جلل الفشل بصورته الضخمة حين يتشظى إلى زوايا حادّة، رافضين لفشل ارتباط شخصين من أقطارٍ متباعدة، ثقافية كانت أو مكانية، زمانية كالعمر أو دينية، مادية كالمال أو المكانة المجتمعية.
ما بين ذلك وذاك، قد نخاف تفاهة الأسباب التي نرى فيها براءة غضبنا، عائدين لتساؤلٍ نتهيّبه:
هل نرتبط حبًّا في الآخر، أم خوفًا من ذاكرة نتنبأ بها مستقبلنا؟

 

هل نرتبط حبّا أم خوفًا مما نتنبأ به؟ 

حتى وإن سبق الحُبُّ الخوفَ في معجم مشاعرنا، فلا يعني ذلك أنه سيغيب إلى الأبد. فمع تحوّل البداية إلى ذكرى، حينما تتطلب العلاقة إقدامًا بلا هوادة، قد يستيقظ الخوف، معيدًا تعريف ذاته مما خزّنته ذاكرتنا؛ تلك التي يُعيثها ارتباك الاستمرارية: استمرارية الاستقرار، والرغبة، والمحبّة، والبرهان المُغيّب عنّا، والذي كان من المفترض أن يبقى رومانسيًّا وساحرًا. فحتى مع معرفتنا لارتباطنا بمن ظنناه مناسبًا لنا، إلا أننا لم نكن نعرف أننا سنصادف نُسخًا جديدة منا، أكثر انفعالًا، وأكثر حاجة لإثبات ذاتها بطرق لم نعتدها.

نُسخٌ لا نعرف إن كنا مستعدّين لملاقاتها، أو لمواجهة ما تحمله من قلق وتحوّل. نُسخٌ تلوّح لنا باستعدادٍ جديد لاحتواء من أحببناه، والارتباط، والإخلاص، وإقصاء الخوف بعيدًا عنّا قدر الإمكان، حتى نكتسب لذّة العيش في مقاربتهما، دون أن يتغلّب أحدهما على الآخر.

أتعجب من أن فصل (مستعدّ للارتباط) هو الفصل ما قبل الأخير بعد أربعة فصول في رواية مسار الحب لمؤلفها آلان دوبوتون (2016). لشخصيتين روائية رابح -ابن بيروت-  وكرستين -الفتاة الاسكوتلندية- ، مفسّرا البُعد بين مرحلة الارتباط الفعلي في الفصل الأول والذي ينمّ عن جاهزية اجتماعية ومالية، والارتباط بمعناه الجوهري في فصل (مستعدّ للارتباط) مُسجلًا من خلالهما النظرة العميقة للحب في روعتِه ومخاطره. مؤرجحًا كفتيّ الحُب والخوف دون نهاية لقصّتهما، في إسهاب شيّق يُشابه واقعنا، بلا نهاية واضحة تُفضي إليها قصصنا. مفترضًا في الرواية قُدسيّة البداية، والملامَة غير المحدّدة التي أصابتهما بعدَ ارتباطهما، وعواقب الرّقابة لانكشاف الرّغبات والذات، وصولًا إلى سخط استيقاظ الاستقلالية الخامدة بعد مسؤوليات الارتباط وهي تلوّح لهما عن مرحلة قديمة أكثر سِعة وحُريّة وروعة كما لم يدركاها من قبل، نهايةً إلى إقرارهم بأنهم مستعدّين أخيرًا للزواج، بالرغم أنهم متزوجان بالفعل، ولديهما طفلان، وقد مضى على ذلك ستّة عشر عامًا! 

تمحّص الشخصيتان نظرة الحُب إلى واقعية ما نعيشُه، أكثر مما نحبّ أن نسمع عنه. حُبٌّ تشتعل فيه شُعلة الرغبات المتناقضة للاستقرار والشغب في آنٍ واحد، وخوفٌ مما قد يسرق منهما العُمر من فُرص: في العمل، والاستكشاف، والتجربة، وأن ينفد منهما الوقت لإنجاب الأطفال، والأهم من ذلك، ألّا ينتهيا إلى وحدةٍ يغدو فيها وجودهما مجرّد رقم بين أرقام البشر الأحياء في هذا العالم، بلا دورٍ بطولي يُذكَر، ولا قصةِ حُبٍّ أثيريّة تُروى عنهما.

نيرَان المخاوف وسكينة الحُب 

هناك ثلاثة فصول من الرواية غير مريحة على الإطلاق! يأخذ الكاتب فيهما الشخصيتين إلى عُمقٍ واهٍ من المشاعر، يتآكل فيه الحُب لاحقًا بفعل الظروف، ومضيّ الزمان، وتكرار الروتين .والأهم من ذلك: مرورنا بأزمة منتصف العُمر، عندما يعوجّ مسار الحياة من جانبنا، موهِبًا أولئك الأصغر سنًّا لونًا أكثر حماسةً من اللون الباهت الذي وجدنا أنفسنا فيه، لا محالة. لا عجب أن أُطلِق عليها عناوين غير مريحة أيضًا، مثل: (جرذ الحُب، سلة غسيل الملابس، الخيانة)، تحت سردٍ يوجّه إلينا صفعة من الآلام التي نستغرب أن تقع فيها أكثريّة قصص اليوم، مستحثًّا فيها مآل المخاوف، وعدم الوضوح، والفجوات الزمنيّة لإصلاح الأخطاء الصغيرة، تلك التي لا نُلقي لها بالًا.

وبالرغم من أن قراءة فصول كهذه تُشعرنا بالانزعاج، إلا أنها مفيدة لاختبار مشكلات يُحتمل حدوثها في عصرنا الحالي، مختبرًا فيها أقصى الحدود التي قد تؤول إليها إن لم نتمرّن على إصلاحها، وإطالة النظر في مسبّباتها: كالخوف، والشكّ، وانحسار الثقة، والأمور المادية كالمال، والزمنيّة كالعُمر.

نظرًا لأن “خلايا الإنسان غير مبرمجة لكي تعيش خوفًا يستغرق مدة طويلة من الزمن، لكنها مبرمجة لخوف محدود يتيح له فرصة الهرب والنجاة من الخطر الماثل أمامه، فالخائف من مسبّبٍ مبطّن يفتقد القدرة على التفكير، والقدرة على الشعور بالحبّ بصورته الشجيّة، والقدرة على احترام ذاته”،بحسب ما ذكره سعيد ناشيد في فصل (الفلسفة والخوف) من كتابه الطمأنينة الفلسفية (2019). كتب ناشيد الحقائق، وأسهب دو بوتون في سردها بكلّ صدق وشفافيّة، مبرّرًا حالات الانفصال التي لا ضماد لجرحها إن تعالت كفتا الحُب والخوف إحداهما على الأخرى.

2
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

البحث عن المعنى
5 كانون الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 5 دقائق
لابأس! لنتألّم قليلًا..
15 نيسان

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 9 دقائق
الركض للتغلب على الألم
14 أيار

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً