جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

قلق الاسترخاء
12 تشرين الأول
النفس والعاطفة

قلق الاسترخاء

12 تشرين الأول

|

النفس والعاطفة
بدعم من

خوفًا من مواجهة محتملة قد يسببها الملل أو الفراغ، كتبَ الفيلسوف الفرنسي في القرن السابع عشر بليز باسكال مقولته الشهيرة: “جميع مشاكل البشرية تنبع من عجز الإنسان عن الجلوس بهدوء في غرفة لوحده”. لأهميتها، سأفترض أنك قرأت سابقًا هذه المقولة في مكانٍ ما أو سمعتها من شخص آخر أثناء حديثه عن جدوى الفراغ في حياتنا، أو عن حساسية علاقة الإنسان بأفكاره.

الفراغ بريء إلى أن تثبت إدانته.

لا يوجد هناك تقريبًا من يخشى الفراغ -بالرغم من كونه رفاهية- من دون سبب. فهناك من يخشى الفراغ حتى لا يتذكّر نفسه، وهناك من يخشاه حتى لا ينهار، وهناك من يخشاه لأنه لم يعتاد ببساطة على التوقّف. بشكل أو بآخر قد يكون الخوف من الفراغ ناتج عن صدمة قديمة أيضًا تحوّلت مع مرور الوقت الى رُهاب خفَي، وهذا ما كان يعاني منه “س” شخصيتنا الافتراضية، الذي يلقّبه أصدقاؤه أحيانًا بـ “الكرّيف”. مُجتهد بطبيعته، في الواحد والثلاثين من عمره، لديه ما يكفي من الأسباب لكي يعمل، لكن ليس لديه سبب واحد لكي يكون فارغًا. يعمل في كل الأيام تقريبًا، أيام الأسبوع الرسمية ونهايتها، ليلاً بقدر ما يستطيع، ونهارًا بشكل روتيني. ولو صادف مرة أن يومه على وشك أن يكون خاليًا من أي عمل يدخل في حالة هلع.

يكره “س” من دون وعي الإجازات الرسمية، ليس بسبب وجود شبهة اكتئاب، بل خوفًا أن يتوقّف -لا قدّر الله- عن العمل، وكأنه يعيش ما وصفه عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل “بعُصاب يوم الأحد”، والذي يعني عند “س” “عُصاب يوم الجمعة أو السبت”. في إحدى الأيام، تجرأ “س” وذهب لمدة خمسة أيام في رحلة من المفترض أن تكون للاستجمام. وصل إلى وجهته، وبعد أن نام ٤ ساعات كحد أقصى، تجهّز لا شعوريًا للعمل، ولكن هذه المرّة ذهب إلى أقرب محل قهوة، فتح جهازه الحاسوب، تفقّد قائمة مهامه، وبدأ يبحث عن مهمّة ليقوم بها. نسيَ تقريبًا بأنه في إجازة، عقله يرفض هذه الفكرة وحتى جسده. حينما وجدَ بأنه لا يوجد هناك شيء ليقوم به، أغلق الجهاز ببطء وبدأ يتساءل: ما الذي يحدث؟ ما الذي أقلق من شأنه؟ وهل أنا في خطر بالفعل؟

بعد ثلاثين عامًا من الهروب المُقْنع، تساءل أخيرًا وقرّر المواجهة. أخذ ورقة وقلمًا، وبدأ يكتب ويفكر. ذهبَ بحذر للماضي البعيد، إلى سنواته الأولى التي يتذكرها، ومن ثم عاد إلى لحظته الحالية، طريقة تفكيره، سلوكياته  غير الواعية، ولكونه في إجازة بعيدًا عن أي مهام محتملة، استطاع في غضون ساعة كاملة من التفكير، وعدد من أكواب القهوة، أن يكتشف أن خوفه من الفراغ وتعلّقه الشديد بالعمل، يعود إلى ثلاثة أسباب تقريبًا:
الأول: والداه لم يكونا يلاحظان إنجازاته.
الثاني: يخاف الرفض من الآخرين بسبب موقف قديم.
الثالث: لديه اعتقادًا مشوّهًا عن الراحة، ليصبح خبيرًا متمكّن في العمل، وحينما يتعلّق الأمر بالفراغ يتحوّل إلى شخص مبتدئ.

تلك كانت أسبابه الشخصية، لم يكن متأكدًا تمامًا من الأسباب الأخرى، ولكنه كان على يقين بعد جلسة صادقة أنه كان يجتهد طمعًا في المديح الذي لم يجده في الطفولة، ويحترق حتى لا يُرفض من أحد. ولا يرتاح لأن الراحة باعتقاده تهديد خطير.

لم يكن “س” الوحيد من يعيش هذه المعاناة، هناك صديقه الذي لم يعترف حتّى الآن بأسباب انشغاله المزمن، ومديره في العمل الذي يتباهى بعدم أخذ إجازته السنويّة، ورائد الأعمال الذي يعتقد بأن الفراغ أو الاسترخاء أو التوقف من أهم أسباب الخسارة. ليؤكّد كل واحدٍ منهم نيابةً عن الآخرين، أنّ العمل في كثير من الأحيان قد لا يكون حبًا في الوصول بل هروبًا من المواجهة والألم. وهذا ليس مستغرب خصوصًا في عصرنا الحديث الذي تحوّل فيه كل توقّف مقصود إلى ذنب محتمل. تحت عنوان أزمة العقل المنفصل  تشير 11 دراسة   إلى أن المشاركين كانوا لا يستمتعون بالجلوس في غرفة بمفردهم لمدة تتراوح ما بين(6 إلى 15) دقيقة دون الانشغال بشيء سوى التفكير، وأنهم يجدون متعة بالقيام بأنشطة خارجية حتى ولو كانت عادية ومملّة، إضافة إلى ذلك، فضّل الكثير من المشاركين أن يتعرّضوا لصدمة كهربائية على أن يكونوا لوحدهم مع أفكارهم. أي أنهم كانوا يفضلون الإنشغال بأي شيء على ألّا يفعلوا شيئًا، حتى لو كان ذلك الشيء مؤلم. في محاولة لوصف هذه الحالة، ابتكر الباحثون بمرور الوقت مفاهيم عديدة، على سبيل المثال: “قلق الاسترخاء”، للإشارة إلى الشعور غير المريح الذي يجده البعض عند محاولته للاسترخاء. أو “رهاب أوقات الفراغ” “ociophobia”  الذي صاغه عالم النفس الإسباني رافاييل سانتاندريو في أحد كتبه لوصف الخوف الناتج عن الفراغ.  وهذا كان ما يعانيه “س” لأسبابه الثلاثة الشخصية.

لكن هل نجا من الفراغ، أم أحبه أكثر؟ 

بعد تأمّل مكثّف، أعاد “س” تعريف مفهوم الفراغ، وبدأ يتوسّع في الفكرة الى أن عاد مفهوم العمل الى مكانه الطبيعي في حياته. كانت إجازته، ودفتره، وساعة تفكيره، هي أهم ما حدث له في سنواته الأخيرة المشغولة. لقد رأى نفسه لأولّ مرّة، وأحبها لأول مرّة أيضًا. في يومه إجازته الأخير، وبعد عدد من اللحظات الفارغة التي عاشها، اقتنع تمامًا أنّ الإنشغال لا يعني الإنتاجية، والجدول المزدحم لا يضمن بالضرورة المكانة، وأن السلحفاة قد تسبق الأرنب، وأن الفراغ عملية إنقاذ وليست نجاة، وأنه لم ينجو منه كعدو، بل تحالف معه كصديق، وأحبه.



9
1
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

الوقت المناسب خدعة
1 أيلول

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 4 دقائق
الأصدقاء مصاصو الطاقة
23 كانون الثاني

|

العلاقات
وقت القراءة: 6 دقائق
حقيقة أحلامك
5 تشرين الثاني

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً