جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

 كيف ننجو بالضحك؟
11 تشرين الثاني
النفس والعاطفة

 كيف ننجو بالضحك؟

11 تشرين الثاني

|

النفس والعاطفة

متى كانت آخر مرّة ضحكت فيها من صميم قلبك؟ هل كان ذلك بالأمس القريب؟ قبل أسبوع؟ أم مرّ  عام كامل على آخر ضحكة حقيقية لك؟ 

في حال غابت الضحكة لمدّة طويلة هل تساءلت يومًا عن السبب؟ هل هي قناعة خاطئة، جديّة مفرطة، أم كنت تعتبرها من دون وعي، ذنب؟ إن كنت تتذكّر، في سنواتك الأولى، كنت تضحك كثيرًا حتى على سقوطك، ليس بسبب عمرك الصغير فقط، بل لأنك لم تتفاعل مع الحياة كما تتفاعل معها الآن. كَبُرتَ، وكَبُرت توقعاتك وجديّتك معك. 

في طفولتك كنت تطبق حرفيًا مقولة: “اضحك تضحك لك الدنيا”. ليس في كل الأحوال بالتأكيد، فأحيانًا كنت تضحك وتضربك الحياة، ومع ذلك تعود في اليوم التالي وتضحك، ليس عدم مبالاة ولكنها طبيعتك كطفل. تشير الأبحاث أن الطفل يستطيع أن يضحك منذ شهوره الأولى، حتى قبل أن يبدأ بالكلام. وهذا يعني أمرين من وجهة نظري: أولاً، أن الإنسان أكثر خبرة في الضحك من الكلام. ثانيًا، أنه من المفترض أن يكبر معنا، لنضحك في العشرين والثلاثين والثمانين. لكن، ما الذي حصل؟ لقد تعلّمنا الكلام ونسينا الضحك. 

في دراسة مثيرة للانتباه أنّ الطفل ذو الأربع أعوام يضحك في اليوم ما بين 300 و 400 مرة، بينما يضحك الرجل ذو الأربعين عامًا 4 مرّات في اليوم الواحد فقط!.  وهذا الرقم مخيف، أو أخافني على أقل تقدير. إنّ عدم الضحك يشبه بطريقةٍ ما عدم القدرة على الأكل أو الشرب، كلاهما يؤدّي إما إلى المرض أو إلى الموت. يكفي أنّ أول ما يخطفه الاكتئاب من الإنسان بعد أن يحرمه الأمل، الضحك. 

الضحك مخرَج

الضحك فضلاً عن كونه فعل فرح، هو فعل نجاة أيضًا؛ تتلعثم في اجتماع عمل وتعتذر بضحكة. تسقط قهوتك في مكان عام و تنقذك ضحكة. وعندما تتوتر أمام الآخرين تخفّف ذلك التوتّر بضحكة. تنقذك الضحكة في كل مرّة لا تستطيع فيها الهروب أو الكلام. هي الصديق الصدوق، المحامي الحكيم أمام عثرات الحياة، والمجنون وقت الجنون، والطفل البريء في أوقات أخرى كثيرة. ليس ذلك فقط، بل هي دليل ذكاء مرّة، وإشارة استغراب مرّة، وعلامة عفو مرّة، وتلويحة صبر مرّة، وإعلان تفوّق مرّة، وهي المجد المباغت على حدّ تعبير الفيلسوف البريطاني توماس هوبز الذي يقول: “الضحك هو الشعور بمجد مباغت، حيث أجد أن الآخر مدعاة للسخرية، فأضحك عليه.” 

الضحك علاج

بالاضافة إلى كون الضحك وسيلة خروج ذكية من موقف صعب أو محرج، هو أيضًا أهم أداة علاجية واستراتيجية تكيّف للإنسان كما يعتقد الصحفي والبروفيسور الأمريكي نورمان كوزنز أحد أبرز المدافعين عن الضحك. كان كوزنز على يقين بأنّ الضحك وحمض الأسكوربيك هما من أنقذا حياته بعد أن أخبره الأطباء أن احتمالية شفائه من مرضه المزمن لا تتجاوز 0.2% فقط. 

يصف كوزنز في كتابه “تشريح المرض”، كيف كان يتابع مشاهد كوميدية حتى يدخل في نوبات ضحك شديدة، مشيرًا أنّ عشر دقائق من الضحك العميق كان له مفعول المخدّر الذي يمنحه ساعتين على الأقل للنوم من دون ألم. في تشبيه جميل، يقول: “الضحك العميق من القلب هو طريقة جيدة للركض داخليًا من دون الحاجة للخروج إلى الهواء الطلق”. 

الضحك حضور

حاول أن تضحك وأنت تفكّر في قصة قديمة، أو بمشروع تخرجك، أو بموعد ترقيتك المحتمل العام القادم، لن تستطيع غالبًا مهما حاولت، ينسحب العقل في هذه اللحظة من مهامه، حتى تعود بسلام للحظة.  لذلك، من الصعوبة بمكان أن تضحك وأنت تفكّر في المستقبل، أو أن تنشغل في الماضي. فحينما نبدأ بالضحك ننسى تقريبًا كل شيء لوهلة سريعة؛ الهمّ والتفكير المفرط والتعب، ونشعر بالراحة. ومن أجل ذلك، نحن نحاول باستمرار أن نضحك، بل وأن نبحث عمن يُضحكنا، سواءً كانت نكتة في مسلسل، أو سطر في كتاب أو في شخص. يشعر الإنسان بالأمان مع من يعرف كيف يُضحكه، هذا الأمان قد لا يعود لذات الشخص نفسه، إنما هو نتيجة ابتعادنا مسافة عن العمل والجديّة والرسميّات، وفي كثير من الأحوال عن أنفسنا. كما يقول دافيد لوبروتون في كتاب الضحك انثروبولوجيا الإنسان الضاحك: “والضحك انفلات مؤقت للذات واستسلام للحظة وتخفيف من المراقبة.”

حينما تضحك يضحك الجميع معك، حينما تتألم وارد أن تتألم لوحدك 

يفصل الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون بين الكوميديا والتراجيديا؛ حيث أنّ الكوميديا تعتمد على الطابع الجماعي أما التراجيديا لها طابع فردي، فالإنسان يضحك مع الجماعة ولكنه يتألم وحده ويموت وحده. وهذه حقيقة مؤلمة الى حدّ بعيد. إذا كنت قد شاهدت مقطع لشخص يضحك في مكان عام ثم يبدأ الجميع من حوله بالضحك معه، فأنت تعرف ما الذي يقصده بيرغسون هنا.

لطالما كان الضحك بطبيعته مُعدي، أسرع، وأكثر رشاقة من الحزن، الحزن ثقيل، الضحك ريشة، الحزن قصّة شخصية بينما الضحك قصّة جماعية. يحب الآخرين من يخرجهم من آلامهم إلى الضحك ولو قليلاً من الوقت. والملفت للانتباه، حتى لو لم يكن الشخص مُضحك، أو لم تعرف سبب الضحك حولك، سوف تضحك غالبًا، لأنّ الضحك في جوهرة وسيلة للترابط الاجتماعي؛ إذ نحن بحسب دراسة أكثر عرضة للضحك بمقدار 30 مرة إذا كنا مع الآخرين مقارنة بكوننا وحدنا.

ختامًا، يكتب نيتشه على لسان زرادشت أنّ الإنسانية بحاجة لمن يُعلِّمها كيف تضحك، فيقول: “لقد أتيتكم بشرْعة الضّحك، فيا أيها الإنسان تعلم كيف تضحك!” وليس صدفة أن يتمسّك فيلسوف ألماني بجديّة نيتشه بالضحك. ربما لأنّه لا يوجد وسيلة لمقاومة فوضى الأيام، وغموض المجهول، أفضل من الضحك، فنحن لم نخلق حتى نكون في مزاج جاد طوال الوقت، ولا أن نضحك في سنواتنا الأولى فقط. 

في كتابه العلم المرح كتب نيتشه بعمقه المعهود: “إنّه لمن الضّروري أن نروّح عن أنفسنا، من حين لآخر لصالح الفن الذي يُمكّننا من تأمّل أنفسنا من أعلى، وأن نضحك علاوة على ذلك، من أنفسنا أو نبكي علينا: أن نكشف البطل، وكذلك البهلول اللذين يختبئان في شغفنا للمعرفة”. ويضيف: “من يحيا بمرح يجب أن يضحك بمرح! ومن يحترف الضحك جيدًا سيحيا بالتّأكيد بشكل جيّد.”

0
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

لماذا يلازمنا التعب؟
26 كانون الأول
النفس والعاطفة
8 دقائق
الشقيقات “نعم” و “لا”
9 تشرين الثاني
النفس والعاطفة
دقيقتين
محاولات تحسين سرمدية
1 حزيران
النفس والعاطفة
5 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً