تفتح “إنستغرام” وتشاهد سفرة فارهة يتم تغطيتها بالتفصيل وأنت في غرفتك. تتصفح “سناب شات” وتصادف خبر تخرّج زميل من جامعة عالميّة مرموقة. تدخل منصة “لينكد إن” وتشاهد سيلًا كبيرًا من الشهادات الاحترافية. تدخل منصة “X” وتشاهد منشورًا عن إقفال جولة استثمارية مليونية لشركة رياديّة بنجاح. بعد هذا الكم من المدخلات العشوائية، تغلق هاتفك وتتساءل بعدها: هل أنا فاشل؟
سؤالٌ منطقيّ بعد كل ما شاهدته. قد تكون سيارتك عادية، متخرّجًا من جامعة مقبولة، ولا تسافر سوى مرة واحدة في السنة، بعد تخطيط دقيق وحجز مسبق بفترة طويلة. المفارقة، كنت تعتبر نفسك بالأمس شخص ناجح، واليوم، بعد تصفّحك السريع، اقتنعت تقريبًا بأنّك فاشل، كسول، ومتأخّر عن الآخرين. خمس دقائق من التمرير غيّرت كل شيء، تحوّل الامتنان إلى شكّ، والرضا إلى قلق، والثقة إلى جلد ذات.
فما الذي حدث إذًا؟ لقد تخلّيتَ عن نجاحاتك الشخصيّة من أجل نجاحات آخرين لا تعرفهم، وقارنت نفسك بطريقة أسعدتهم جميعًا وأحزنتك، وقرّرت في لحظة أن العادية التي تعيشها فشلًا، والاستثنائية هي النجاح الوحيد.
النجاح نسبي
لا يوجد تعريف محدد للنجاح، الكل لديه تعريفه الخاص، الفنان يراه في اتقان لوحة، والقائد في حسم معركة، ورائد الأعمال في تطوير فكرة، والطبيب في نجاح عمليّة، والكاتب في كتابة سطر حَي. ونستون تشرشل لخّصه بقوله: “أن تنتقل من فشلٍ إلى فشل دون أن تفقد حماسك.” بينما رأته مايا أنجيلو في الحب: “أن تحب نفسك، وأن تحب ما تفعله، وأن تحب الطريقة التي تؤدّي بها ما تفعله.” أما كوكو شانيل، مصمّمة الأزياء الفرنسية، فاعتبرت النجاح: “عندما يدرك الإنسان أن الفشل أمرٌ لا مفر منه.” ، لكن، ماذا يعني النجاح بالنسبة لك؟
لستَ بحاجةٍ أن تكون قائدًا عام، أو مصمّمًا عالميًّا، أو رائد أعمالٍ مخضرم حتى تجد الإجابة، ورقة وقلم، وكوب قهوة، وصدق كبير مع نفسك خصوصًا في زمن أصبح يقيس النجاح بما يعطيك المكانة، والتصفيق الحار، لكن لا تضمن بالضرورة النجاح الذي يصاحبه الرضى، والسعادة، والامتلاء. كالحصول على شهادة قويّة، ووظيفة مرموقة، ومؤشّرات أداء مرتفعة، وسيارة فارهة. أن تكون مهندسًا مثل ولد عمّك، طبيب أعصاب مثل خالك، أو تاجر عقار مثل جدّك، كم عدد الأشخاص الذين سمعت أنهم أصيبوا بالاكتئاب بعد الشهرة؟ وكم من آخرين أدركوا، بعد فوات الأوان، أنهم لم يكونوا أبدًا في مكانهم الصحيح؟ وكم شخصًا وصل إلى القمة، لكنه لا يزال يشعر أنه في القاع؟
سعيًا منها لوصف هذه الحالة، ابتكرت الكاتبة ميغان هيليرر، التي حققت كل مقومات النجاح التقليدية مثل التخرج بمرتبة الشرف من جامعة ستانفورد وقضاء ثماني سنوات كمديرة تنفيذية في جوجل، مصطلحًا خاصًا بها: “المنجِز غير المُشبَع”. تصف بهذا المصطلح كل من يعيش حياة مثالية ظاهريًا، ولكنه يشعر بالانفصال عن عمله وحياته وذاته. في مقال لها نشرته صحيفة الجارديان، كتبت هيليرر أن “أن تكون ناجحًا، أو أن تبدو ناجحًا، يختلف تمامًا عن أن تكون ممتلئًا من الداخل.”
لو اخترع آينشتاين المصباح، لما شعر بالنجاح الذي شعر به حينما وصل إلى نظرية. ولو اكتشف بيتهوفن الفضاء، لما شعر بالنجاح الذي شعر به حينما ابتكر معزوفة. إن نجاحات آينشتاين، وبيتهوفن، ومعظم الناجحين، كانت بالمُجمل نجاحات داخلية لا خارجية؛ اهتمامات تلقائية عفوية, التي اكتشتفت البروفيسورة آنجيلا داكوورث أنها سرّ النجاح، مما جعل عالم النفس بجامعة هارفرد دانيال جيلبرت يعلّق بقوله: “أمضى الأطباء النفسيون عقودًا من الزمن وهم يبحثون عن سرّ النجاح، لكن داكوورث هي التي وجدته.” وقد توسّع في هذه الفكرة طويلاً الكاتب والمفكّر السعودي إبراهيم البليهي في كتابه – عبقرية الاهتمام التلقائي –. والذي يسرد فيه تاريخ لأشخاص كانوا أطباء، ومن ثمّ تخلوا عن تخصصاتهم، فأصبحوا مبدعين باختلاف مجالاتهم، فخرَج منهم الفيلسوف، وسطعَ المفكر، وبرزَ الأديب، وولدَ الشاعر، وظهر القائد السياسي؛ والسبب، استجابتهم لاهتماماتهم التلقائية العميقة.
ختامًا، هل يعني النجاح أن نتوقّف عن تحقيق الإنجازات التقليدية – بتعبير ميغان –؟ بالتأكيد لا، من حقّ كل إنسان أن يفوز في الخارج، كما من حقه أن يفوز بالداخل. أن ينتبه بالتوازي مع الوظيفة، والشهادة، والمكانة، الى كل ما يربطه بنفسه والحياة، فالسعادة فضلاً عن النجاح هي داخلية. كما يقول المفكّر والمستثمر نافال: “أدركت أن الأشخاص حولي الذين حقّقوا نجاحًا مشابهًا وكانوا في طريقهم لتحقيق المزيد، لم يبدوا سعداء على الإطلاق. وهذا قادني إلى الاستنتاج الذي يبدو مبتذلًا، بأن السعادة داخلية.” ويضيف: “معظم الناس يفكّرون في شخص ناجح عندما يفوز بلعبة، أياً كانت اللعبة التي يلعبونها. بالنسبة لي، الفائزون الحقيقيون هم الذين يخرجون من اللعبة تمامًا، الذين لا يلعبون اللعبة حتى، الذين يرتفعون فوقها. هؤلاء هم الأشخاص الذين يتمتّعون بضبط النفس، ولديهم الوعي الذاتي بحيث لا يحتاجون إلى شيء من أيّ شخص آخر.”
وهذا تعريف آخر للنجاح. فما هو تعريفك؟ هل يشمل العاديّة مثلاً، العطاء ولو بكلمة، الصدقة ولو بابتسامة، والإنجاز ولو بخطوة، والعفو ولو عن موقف، والشجاعة ولو بالنيّة، أم هو وظيفة مرموقة، سيارة فارهة، أم كل سبق، أم ماذا؟


