في مقال سابق بعنوان “كيف تُبث الروح في المكان”، تأملنا كيف يمكن للحياة أن تُبث في الفضاء المعماري، لا سيما في بيوتنا الحديثة التي باتت في كثير من الأحيان تفتقر إلى الطابع الإنساني الدافئ. أشرتُ فيه إلى أهمية الموروثات والعناصر الجمالية المتجذّرة في ثقافتنا وتراثنا، ودورها الفعّال في تشكيل عمارة نابضة بالحياة، قريبة من الإنسان، ومتصلة بروحه وهويته.
ومع ذلك، فإن ما طُرح في ذلك المقال لم يتعمّق بما يكفي في العناصر المعمارية التي لعبت دورًا حقيقيًا في بثّ الروح في بيوت أجدادنا. لذا، أسلط الضوء هنا على مثالين كان حضورهما شائعًا ومُعاشًا في البيوت العربية التقليدية عمومًا، وفي السياق السعودي بشكل خاص، إلا أن وجودهما بدأ يخبو في بيوتنا المعاصرة. أحدهما عنصر جوهري في تكوين الفضاء المعماري، إلا أن التلاعب به لإضفاء البعد الحسي والروحي لم يعد مألوفًا إلا في البيوت النخبوية، أما الآخر فهو طبقة فنية اختيارية، تُضفي على المكان بُعدًا جماليًا وثقافيًا، رغم أنه ليس من العناصر الإنشائية الأساسية. هذان العنصران هما: الضوء والظل، والخط العربي.
الضوء والظل: الإيقاع البصري للروح
عند تأمل شاعرية المكان، نجد أن الضوء لم يكن يومًا عنصرًا محايدًا أو أداة للرؤية فحسب، بل كُرّم بوصفه كائنًا حيًّا، له حضوره، وسلوكه، وإيقاعه الخاص. في بيوت أجدادنا، كانت الشمس، رغم سطوتها في المناخ الصحراوي، تُستقبل لا تُصدّ، ويُرحَّب بها عبر فتحات تتسلل منها أشعتها برقة، إما عبر مشربية أو نافذة صغيرة، لترسم ظلالًا متحركة على الجدران والأرضيات. ذلك التدرّج بين النور والعتمة، وتباين درجاته يصنع مزاجًا بصريًا متجدّدًا، ويؤسس لعلاقة شاعرية غير مباشرة بين المكان والزمن.
في جدة التاريخية، على سبيل المثال، كانت الرواشين الخشبية المطلة على الشارع، تتوزّع بعناية لتخفف شدة الضوء وتحافظ على الخصوصية. وبرغم وظيفتها العملية، لم تفتقر تلك الفضاءات الداخلية إلى الرقة والجمال؛ فحين زرتُ بعض البيوت التي خضعت للترميم، وبدت فارغة من أهلها، استشعرت الهدوء الذي يرسمه الظل على جسدي حين اقتربتُ من إحدى المشربيات. كانت لحظة تأملية تفصلني عن فوضى الشارع والبيت معًا، كما لو أن الضوء يدعوني إلى الصمت فيما بين البينين.
شبيهٌ بهذا الشعور اختبرته في بيت السحيمي في القاهرة، حيث تُجسّد المشربيات الخشبية الحضور المتحوّل للضوء. يتبدّل شكل الغرفة ومزاجها مع حركة الشمس، وتُصبح المشربية نفسها عنصرًا وسيطًا بين الداخل والخارج، بين الذات والعالم. جلستُ على كنبة مجاورة لها، أتأملها وكأنها بوابة نور، أو بوابة ظل، أو بوابة تجسد الرقصة بينهما وهو يمتد ببطء إلى داخل الغرفة. الفرق أن مشربية السحيمي كانت تطل على فناء داخلي، وكأنها طبقة إضافية من الحماية والتمحور حول الذات.
في المنطقة الشرقية من السعودية، ولا سيما في الأحساء، كانت كثير من الفتحات المعمارية تتوّج بزجاج مثلّج ملوّن على شكل قوس. يدخل الضوء من خلالها باستحياء، محمّلًا بألوان خافتة، تترك صبغتها المتحركة على الجدران لتحييها، وتمنح الفراغ دفئًا يتجاوز ازدواجية الأبيض والأسود.
الجدير بالذكر أن هذه الحلول لم تكن عشوائية، بل كانت جزءًا من استراتيجيات معمارية واعية، تهدف إلى تحقيق التهوية الطبيعية، وتلطيف الحرارة، وضمان الخصوصية. لكن، حين نقارنها بما نشهده اليوم، لا يسعنا إلا أن نتساءل: هل يعقل أن يكون الشباك المربّع المطل على شارع صامت وأقرع هو كل ما تبقّى من علاقة البيوت بالضوء والظل؟ أليس في هذا ضياع لحكاية كاملة من النور والظل، كانت تروى على جدران بيوتنا القديمة؟
الخط العربي: حضور اللغة متجسّدًا
أما الخط العربي، فقد كان، ولا يزال، تجسيدًا مرئيًا للغة والهوية. لم يكن في بيوت الأجداد عنصرًا معلقًا أو زينة جانبية، بل كان جزءًا حيًّا من تكوين المكان. كُتب على الأقواس، ونُقش على الخشب، ورُسم على الجدران، وتكرّر في تفاصيل تحمل رسائل دينية، أو شعرية، أو إنسانية، تحاكي أهل الدار وزائريه.
يبرز قصر الحمراء في غرناطة بوصفه المرجع الأشهر لهذا التوظيف الجمالي للخط العربي، حيث يلفّ الخط جدران القصر في كل زاوية. كُتبت به آيات قرآنية وأبيات من الشعر الأندلسي، بخطوط متنوّعة تُناسب زخرفة المكان، ليُصبح النص جزءًا لا ينفصل عن الكتلة المعمارية، وصوتًا حيًّا ينطق بما شهده القصر من عظمة وتحوّلات.
في البيوت الحجازية، كثيرًا ما زُيّنت المجالس بآيات مكتوبة على الجص أو الخشب، تُقرأ كل يوم وكأنها جزء من إيقاع الحياة. كان حضور الخط امتدادًا لهوية البيت وقيم أهله. وحتى وقت قريب، اعتادت البيوت السعودية أن تضع على واجهاتها لوحات رخامية تحمل اسم صاحب المنزل الرباعي، مكتوبة بخط أنيق، غالبًا بالنسخ أو الثلث. اليوم؟ تُعرف بيوتنا بأرقام لا تُقرأ، ولا تُحفظ، ولا تحكي شيئًا. فلما لا يتم الجمع بينهما؟
الخط العربي، وإن لم يكن جزءًا إنشائيًا من العمارة، إلا أنه يصبح مع الزمن لغة للمكان. كان البيت يتكلّم، ليس فقط بأصوات ساكنيه، بل بجدرانه أيضًا، وبما كُتب عليها من حكمة، وشكر، وذكر.
ليست المسألة في تقليد الماضي، بل في استحضاره بروح تُناسب الحاضر. أن نُعيد للفراغ صوته، وللجدار لغته، وللبيت لحظاته الصغيرة التي تجعلنا نشعر بانتمائنا إليه حقًّا. فلا أثاث باهظ وحدة يستطيع خلق الروح للمكان، بل من تفاصيل حيّة كشعاع نور يتسلل من فتحة نُسجت بحب، أو جملة مكتوبة بخط عربي تتوسد الحائط، وتُذكّرنا من نحن.


