لـ ريحان مرغم
هذا مقالٌ في مديح الألم، وقد يبدو مستفزًّا قليلًا؛ لكنّه محاولةٌ جادّة وصادقة لتفكيك الألم ومعانيه والغايات المرجوّة منه بشكلٍ يسمح بالاطمئنان ومتابعة الحياة رغم كلّ الظروف القاهرة التي قد تمرّ بنا. وهو كذلك محاولة لمواساة أولئك الذين يمرّون فعلًا بهذه الظروف، والذين لم تترك لهم آلام الحرب والفقد منفذًا لالتقاط الأنفاس أو الحُظوة ببعض السكينة. وقد تبدو لهم كلماتي مجرّد تنظيرٍ بحت لا طائل منه أمام هول ما يرونه؛ فليعذروا صفاقتي، ولْيُسامحوني.
لا مفرّ من الألم!
سواء تعلّق الأمر بفقد حبيب، أو حادث مريع، أو حتى وخز شوكة؛ الألم موجود في كل مكان بمختلف تجسّداته الكبيرة والصغيرة، بتلك التي تعصف كيان الإنسان وتزلزله، وتلك التي تمرّ عليه هونًا لكنّها في كلّ الأحوال تسوؤه. وهو جزء لا يتجزّأ من تجربة الوجود لدى الإنسان. هذه أول نقطة لا بدّ أن ندركها ونقتنع بها كي نجعل من تجربة التعامل مع الألم أكثر نضجًا ووعيًا وبأقلّ الأضرار الممكنة. لا بدّ أن نُسلّم بحتمية التعرّض للإساءة والضرر مهما اعتقدنا جميعًا بأنّنا محصنون منه، ومهما حاولنا أن ننكره بحثًا عن حياة لا تشوبها الشوائب.
الألم لا مفرّ منه. هل تتذكّر كيف جفاك صاحبك وتساءلت بحيرةٍ عن سبب ذلك؟ أو كيف كنت تمشي مسرعًا حتى اصطدم إصبعك بزاوية السرير وكدت تقفز من الضرر؟ وهل صادفتَ شخصًا تغيّرت كل حياته بسبب دخوله إلى السجن؟ وهل انتابك قهر شديد وأنت ترى من وراء الشاشات كيف يحترق قلب الفاقدة من القهر والغيظ وهي تحتسب وتصبر؟ ألا ترى بأن هذا الشعور الغامر بالأذية لا بدّ أن يصادفك ولو مرّة في اليوم، وأن هذا القلق من انعدام الأمان والحماية ملازم للإنسان أينما ذهب ولا يمكن له أن ينفكّ عنه؟
لكن، كيف نتعامل مع حتمية هذا الألم؟ يقول الفيلسوف الوجوديّ الدنماركيّ “كير كيغارد”: “يبدو حقًّا أن من يعمل هو وحده من يحصل على الرغيف، وأنّ من يتألم هو وحده من يجد الراحة، وأنّ من يتحدّر إلى العالم السفلي هو وحده من ينقذ محبوبه” فالألم إذن محطة من محطات الطريق، لا بدّ وأن تتوقف عندها إذا أردت المضي قدمًا نحو ما تريده، اعتبره امتحانًا من امتحانات الحياة، ولن تطوي صفحة من صفحات حياتك إلا بالخضوع له، قد تفشل في المرة الأولى والثانية والثالثة، لكنّك بعدها ستكتسب مناعة وتجربة كبيرين يمكناك من رؤية الأمور بزاوية أكثر انفراجًا ونظر أكثر اتساعًا.
تأمل في جسمك قليلًا. جهازك المناعيّ هو أبرز مثال لمهارة تقبل الألم وتحويره. يصطدم في المرة الأولى بالأجسام الدخيلة عليك، بالفيروسات والبكتيريا، ويتسبب لك ذلك بالكثير من الضّرر والحمّى، لكن جهازك المناعي يحفظ مواصفات هذه الأجسام الدخيلة بشكل دقيق ليولّد أجسامًا أخرى مضادة تحميك في المرات القادمة، ويكتسب مناعةً ذاتية. وهذه المناعة ما كانت لتحسن حمايتك لو لم يذق جسمك الألم ولم يتعلم منه. الألم وسيلتك لتوليد مناعة ذاتية، للحصول على حصانة نفسية منيعة، تقف كالقلعة الحصينة في وجه كل المشاكل القادمة التي تحاول أن تهدمك، للتخلص من الهشاشة النفسيّة، ومن تلك القوقعة التي نحبس أنفسنا فيها هربًا من المواجهة.
الشدائد هي كذلك سبيلٌ لتمحيص النفس البشرية ومعرفة الصادق منها؛ فالطوفان الهادر الذي يأتي مباغتًا ويجرف معه كل شيء ويغربل جمع النفوس المختلطة لتُكشف على حقيقتها لا بدَّ منه، وذلك المخض الذي يكون شديدًا هو ذاته ما يجعلك طاهرًا من الزّيف “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142- آل عمران). كم هو عدد المواقف التي تألمنا فيها كثيرًا لكنها كشفت لنا شماتة الصديق وجفاء الحبيب، وأرتنا المحيطين بنا على حقيقتهم؟
يحرّرنا الألم من الاعتقاد الذي قد ينبع من الأنا المتضخمة داخلنا أننا وحدنا من يعاني في هذا الكون، وأننا لا نستحق ما يحدث لنا، ومن ذلك الاعتقاد الذي يولِّده اليأس بأننا لن نتجاوز هذه المحنة. يقول الروائي
الأمريكي “جيمس بالدوين”: “تظن أنَّ ألمك وحرقة قلبك لا مثيل لهما في تاريخ البشرية… ثمَّ تقرأ” وتعرف أنك واحد من الملايين الذين يتألمون في هذا العالم فقط لكون الألم ضرورة وجودية، وأن بعض الآلام لا تستحق أن نقف عندها. والآن أخبرني: كم هو عدد المرات التي ظننت فيها بأن ألمك أكبر من أن تحمله الجبال ثم تجاوزته ونجوت منه؟
المعنى الذي يهون علينا الألم
الألم الذي يقودنا إلى المعنى..
“ويل لمن لا يرى في حياته معنى، ولا يستشعر هدفًا لها، ومن ثمَّ لا يجد قيمة في مواصلة هذه الحياة وسرعان ما يحس بالضياع” هكذا يرى الطبيب النفسي “فيكتور فرانكل” في كتابه الشهير: “الإنسان يبحث عن المعنى”، فأول سبيل نحو النجاة من الآلام هو أن يكون للإنسان غاية من وراء حياته -الأمر الذي بات يشكل معضلة في عالمنا الحديث-.
تشكلت رؤية الدكتور فرانكل بعد تجربة مريرة في مخيمات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث لاحظ أن أكثر السجناء الذين نجوا رغم الظروف القاهرة والتعذيب؛ كانت نجاتهم بفضل المعنى الذي يحف حياتهم، والذي يكون أشبه بقشة نجاة يتمسكون بها في بحر شاسع لا قاع له، وهو الذي يحمي الإنسان من الانهيار في أوقاته العصيبة.
يقول إرفين يالوم: “إن المعاناة تتوقف من أن تكون معاناة بشكل ما، في اللحظة التي تكتسب فيها معنى”، والمعنى الذي نتحدث عنه قد يتمثل في أمور عديدة حسب الشخص وقناعاته ومعتقداته. الكثير منا يحتمي خلف لطف الله وعوضه ويجعل من الإيمان مكسبه الوحيد الذي يعينه على تحمل الألم، والبعض الآخر يلجأ إلى دفء العائلة، والبعض يقتات صبره وأمله من وجود الحبيب، وثمة من يلهي نفسه عن الألم من خلال الاستغراق المفرط في العمل.
في هذا السياق، أستذكر أبياتًا منسوبةً إلى الإمام علي بن أبي طالب، جاء فيها: “وإن تسألني كيف أنت فإنّني/ صبورٌ على ريب الزمان صعيبُ/ حريصٌ على ألّا تُرى بي كآبة/ فيشمت عادٍ أو يُساء حبيبُ”، والأبيات تبرز كيف أن استنكاف شماتة الأعداء والخوف على حزن الحبيب هو المعنى الذي يلف الروح المضطربة بالطمأنينة والثبات، ويجعل من تحمل الآلام ومحاولة اجتيازها مهمة مفروضة عليه على حد
تعبير الدكتور فرانكل، ولا يمكن لأي أحد آخر أن يعاني بدلًا منه، ولا بد أن يتم المهمة بنجاح مهما كلفه ذلك.
التمسك بالمعنى يساعد على اجتياز الألم، لكن الألم بدوره يرينا كيف ندرك المعنى، ويقودنا نحوه. يقول الكاتب السوري ندرة اليازجي: “البحث في الألم بحث في الغبطة، إنه غوص إلى أعماق الوجود لإدراك حقيقة الإيجاب والسلب”، فالمعاناة إذن سبيل نحو عودة الإنسان إلى ذاته، وصوغه لرؤيته وأهدافه، وتمسكه بخيط هم أو قضيةٍ أو منالٍ يعيش من أجله. الألمُ تنبيه الإنسان على أنه حي وإلا فما لجرحٍ بميت إيلام. أُنظر إلى الفيلسوف البوسني “علي عزّت بيجوفيتش” وهو في دهاليز السجن عاكف على مسودة كتابه: “هروبي إلى الحرية” يخطّ بثبات: “بين الحزن واللامبالاة، سأختار الحزن”، سأفضل أن أتألم في سبيل قضية أؤمن بها، على أن يكون وجودي أو عدمه سواء.
في منتصف التسعينات، ابتكر الطبيبان النفسيان “ريتشارد جي ديتيشي” و”لورانس جي كالهون” مصطلح “نمو ما بعد الصدمة – Post Traumatic Growth” في جامعة نورث كارولاينا، ويعبّر المفهوم عن التغير الإيجابي الذي يمكن أن يحدث في حياة الأفراد عقب تعرضهم لصدمة قوية؛ فوفقًا للدكتور ديتيشي فإن حوالي 90 بالمئة من الناجين من الصدمات، يبدون جانبًا من جوانب النمو بعد الصدمة كتقدير الحياة من جديد، أو الاتصال بشكل أعمق بأهداف حياتهم، والمعنى الذي يعيشون من أجله.
وهذا السلوك الذي قد ندعوه -في ثقافتنا الإسلامية- بالثبات يزخر به تاريخ الأبطال، الذين ظلوا على مواقفهم وقناعاتهم رغم كل ما مر بهم. أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما استشهد ابنها “عبد الله بن الزبير” وظل معلقًا مصلوبًا، لم تزد على أن قالت للحجّاج بلهجة متحدية: “أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟” هكذا بكل بساطة، والألم يملأ جنبيها، وكل ذلك لأنها كانت مؤمنة بالغاية الكبرى التي تكمن وراء استشهاده رغم ما تحمله من ألم.
ثمّ إن المشهد العظيم الذي رأيناه قبل أيام، والذي لا يمكن أن يشبهه مشهد آخر ولو صنع في أعرق استديوهات السينما هو مثال آخر حي عن الجدوى من تحمّل الألم. الرجل أصيبَ وحيدًا بقذيفة دبابة وكانت ذراعه تنزف لكنّه أبى إلّا أن يلقي بعصاه، ويقاوم حتى آخر رمق، بهيئة متحدية تشبه نهجه في حياته، في موقف مثير للدهشة والفخر والثبات، ويجسد كيف يمكن للإنسان أن يحيى مع الألم ويحوّره ليصير معنًى يعيشُ من أجله ويموت من أجله، وهو الذي اختار طريقه هذا بعد أكثر من عقدين قضاهما في السّجن، أي بعد شدّة كبيرة عصفت بشبابه.
يقول الروائي اللاتينيّ “ماريو فورغاس يوسا”: “إنّه من المفيد أن يعاني المرء بين حين وآخر آلامًا ونكبات، لأنّ ذلك يذكّره بأنّه منفي في هذه الأرض، وعليه ألّا يبني أية آمال على أشياء هذا العالم”، أن هذه الدنيا مخلوقة على كدر، تزخر بالآلام والنكبات، لا يهنأ فيها أحد، ولا ينجو فيها من الألم أحد، ووضع هدف وغاية فيها هو فقط ما يعين عليها.
الحياة الحديثة لا تعترف بالألم
تحاول الحياة الحديثة بشتى الأشكال أن تحصن الإنسان من الألم، وتروج لمفهومي اللذة والسعادة على أنهما ممكنان في جميع الأوقات وأنهما الأصل في هذه الحياة. كيف يمكن تحصيل اللذة إذن؟ من خلال الاستهلاك. كل شيء في هذه الحياة يحثنا على الاستهلاك الدائم فقط حتى لا تتوقف عملية الإنتاج والحصول على الأرباح، ويسوق للعلاقات العابرة السائلة، والغرق في العمل والتسوق المفرط على أنه وسيلة لنسيان الألم وتجاهله.
لكنَّ الأمر لم يتوقف هنا، فمع اكتشاف الأدوية النفسية في خمسينيات القرن الماضي كمضادات الاكتئاب ومضادات الذهان وغيرها، ظهر ما يعرف بالمدرسة العلاجية الدوائية في علم النفس (Psychopharmacology) التي تعتمد على الأدوية بشكل رئيسي في علاج الأمراض النفسية. ثم تطور الأمر، وأصبح قرص مضاد الاكتئاب في أيامنا هذه موجودًا عند كل من يمر بحالة انفصال، أو رسوب في امتحان.
لديك مشكل ما؟ لا بأس، سنضخك بمضادات الاكتئاب حتى الثمالة، ولا يهم إن كنت لا تحتاجها فعلًا، المهم أن تسير عجلة الإنتاج كما ينبغي؛ فآلامك هي مصدر رزق لنا. الحياة الحديثة تريد منك أن تهرب من ألمك، أن تنسى وجوده، عوضًا عن مواجهته ومحاولة تفكيكه والتعامل معه، سيظلّ ذلك الألم موجودًا دائمًا. لذلك، تركز مدارس العلاج السلوكي كمدرسة فرانكل على “إعادة أنسنة الطب النفسي”، من خلال التعامل مع الإنسان بوصفه ذاتًا يمكنها تقبل ألمها ومواجهته لا حيوانًا تجرب عليه العقاقير والأدوية.
المغزى من كل ما قيل أن مواجهة الألم وتقبله هو أول سبيلٍ نحو تخفيفه، وإلا فإن باقي الطرق مجرد تأخير للمواجهة الحقيقية لا أكثر. كلنا نريد حياة هانئة، ومطمئنة، إلا أن الوصول إليها لا يكون سوى بالمرور على محطات طويلة من الألم، فلا بأس يا صاحبي! لا بأس… لنتألّم قليلًا.