يبدأ الكاتب القدير سعيد ناشيد كتابه التداوي بالفلسفة بسؤال، وهو: هل تساعدنا الفلسفة على مواجهة صعوبات الحياة اليومية؟
توقفت كثيرًا عند قراءة هذا السؤال، نفضَت ذاكرتي الغبار عن أحداث الماضي لسنوات عديدة، سنوات ثقال بدأت عام ٢٠١٥ وانتهت عام ٢٠١٨، سبب ثقلها إصابة والدتي بمرض عضال، إصابتها التي أدت إلى إنهيارات عظيمة في منظومة العائلة، كيف لا وهي العمود الأساسي لهذه المنظومة؟
كل فردٍ منا قام بمهام تقوم هي وحدها بها، وكان الأثر النفسي علينا جميعًا بالرغم من تكاتفنا يجعلنا لا نشعر إلا بمرارة الحياة، في تلك المرحلة القاسية بثقلها الذي لا يحمله جسمي النحيل، لم أجد ملجأ يساعدني وينفضُ ما بي غير الفلسفة الرواقية، لا تسعفني ذاكرتي بكيفية تعرفي على هذه الفلسفة، لكني ألتمس أثرها السامي الذي أضاف معاني كثيرة لي في هذه الحياة، وهون عليّ السير في طريقها وخفف عليّ ثقل ما أمر به.
لن أدخل في تفاصيل الفلسفة الرواقية الآن ولكن أرجو منك صديقي القارئ بأن تهذب روحك بالتعرف عليها، ونعود لسؤال سعيد الذي اعادني لسنوات مضت، وأنا أحمل جوابي بالإيجاب على سؤاله قبل أن أغوص بجوابه:
هل تساعدنا الفلسفة على مواجهة صعوبات الحياة اليومية؟
يرى سعيد ناشيد أن الفلسفة مرشدنا إلى إعْمال الفكر وإلى الفهم العميق للنفس الإنسانية، فلا يمكننا أن ننُمَي القدرة على الحياة من دون تنمية القدرة على التفكير، ولا سيما التفكير النقدي.
ومن هنا ينبع سؤال: “ما هي علاقة التفكير النقدي بالقدرة على الحياة؟”
فهناك جوابان، الأول: الأهم من الأشياء هي طريقة تفكيرنا بها.
والثانية: ليس الشقاء سوى خيبة الأمل، والعدمية ليست سوى شقاء يؤدي إلى اللامبالاة، وحين يقوم التفكير النقدي بنزع السحر عن الأشياء فإنه يحمينا من خيبة الأمل، سواء تعلّق الأمر بالتاريخ أو الحب أو الثورة أو السعادة أو الألم أو الموت، بالتالي نكتسب القدرة على العيش بأقل ما يمكن من الآمال والأوهام.
والتفكير الناقد يتطلب الحكمة والتأمل والتفلسف، وهذه المفاهيم هي المفاهيم التي تقوم عليها الفلسفة.
وهنا أتساءل ما نفع كل هذا؟
يقول سعيد ناشيد بأننا نواجه صعوبات الحياة لنستعيد القدرة على الحياة البسيطة، واستشهد ببوح نيتشه:
لوحة رسمها الفنان hans johann wilhelm للفيلسوف نيتشه
“إن نمط الحياة البسيطة هدف بعيد للغاية بالنسبة لي، وسأنتظر حتى يأتي أناس أكثر حكمة مني ليعثروا لنا عليه”.
إذًا؛ ما هي مقومات الحياة البسيطة؟
هناك خمس مقومات للحياة البسيطة، وهي:
أولًا: حياة أعيشها بأقل ما يمكن من الشقاء والألم والأوهام، وذلك يتعلق بأنظمة الحياة اليومية بدءًا من النظام الغذائي والصحي، وانتهاء بالنظام المعرفي والتواصل الأخلاقي.
ثانيًا: حياة أكون فيها متصالحًا مع قدري الخاص، بحيث أكفُ عن مقارنة نفسي بأي قدر آخر لإنسان آخر.
ثالثًا: حياة أكون فيها أنا هو أنا بالذات، بحيث أكون كما أنا لا كما يريد الآخرون.
رابعًا: حياة أبسطُ فيها سلطاني على نفسي، بحيث تكون إنفعالاتي ومشاعري صادقة في التعبير عن القيم التي أعبّر عنها وأدعو لها، وأؤثث خيالي بما يناسب طاقتي، وبما يقلص من أثر الغرائز البدائية والانفعالات السلبية.
خامسًا: حياة حيث أصنع المتعة بأقل الأشياء، وأبدع السعادة بأيسر الوسائل، وامتلك الفرح بأبسط السبل، حيث تكون البهجة الحقيقية هي بهجة الشعور بالنمو والارتقاء.
والآن أعدكم بأننا سنعود لجواب السؤال، هناك ثلاث قضايا أساسية، وهي:
أولًا: ترتبط الكثير من صعوبات الحياة اليومية بطريقة تفكيرنا في تلك الصعوبات، من قبيل الفشل، الإحباط، المرض، الألم، الطلاق، الموت، إلخ.
ثانيًا: تساعدنا الفلسفة في إعادة التفكير في نمط تفكيرنا، مثلًا، لماذا أشعر بالأسى والغضب عندما أتألم؟ لعلّي أتصور الألم كأنه نوع من الظلم والاعتداء أو أنه يحتمل شيئًا ليس عادلًا، لكن بعد التأمل سأكتشف أن الغضب مجرد رد فعل يضرب بجذوره في أعماق اللاوعي الجمعي عندما كان الإنسان البدائي يرى أن الألم لعنة من الآلهة أو السحرة أو الأرواح الشريرة، ومن هنا قد أجعل الألم فرصة للإبداع بدل الشكوى والغضب والإحباط.
ثالثًا: إذا كانت الفلسفة تساعدنا على تغيير نظرتنا إلى الحياة فبوسعها أن تساعدنا على تحسين قدرتنا على العيش.
ومن هنا أستطيع أن ألمس بأن الفلسفة هي تغير التفكير من تفكير ناقم لتفكير متأمل ناقد، يجعلنا نرى الصعاب بحجم لا تضخيم ولا تهويل فيه، وإن قمنا باستغلال طاقة الألم لتوليد أمل و شجاعة مقدامة للحياة، بهذه الطريقة يمكننا تخطي صعوبات الحياة اليومية التي تواجهنا.