لا شك بأن المقال المميز هو القادر على خلق ردود الأفعال وإثارة النقاشات وهذا ما حدث معي بعد قراءة مقال الأستاذة نوال خلوفة “التداوي بالفلسفة“؛ مما دفعني لكتابة هذا التعقيب على مقالها المبهج.
هنالك عدة أسئلة تفرض نفسها بقوة عندما تفرغ من قراءة مقال نوال خلوفة، ومن هذه الأسئلة “لماذا نتداوى بالفلسفة؟” وللإجابة على هذا السؤال حري بنا أن نعود للوراء لنسبر تعامل الإنسان مع نفسه ما هي المصاعب التي واجهها؟ وكيف حلها؟ ومن ثم نتقدم مرة أخرى لعصرنا الحاضر لنستعرض كيف يتعامل الإنسان مع مصاعب الحياة ودور الفلسفة.
تعتبر أسطورة “جلجامش” Gilgamesh من أقدم الأساطير البشرية التي عالجتها مخاوف الإنسان والضغوط الكئيبة التي تثقل كاهله.
ويمكننا أن نرصد ذلك بشخصية أحد أبطال الأسطورة ويدعى “إنكيدو” Enkidu؛ ذلك البشري الذي كان يعيش مع الحيوانات بتناغم وكأنه منها، وكان من شدة تعلّقه بعالم الحيوان يساعد الطرائد التي تقع في شباك الصيادين، مما أغضب عليه الصيادين ودفعهم لرفع شكوى لجلجامش الذي دبر مكيدة ليوقع انكيدو في حبائل اللذة الإنسانية؛ وذلك بعدما شجّع إحدى نساء القصر على إغواء أنكيدو.
بعدما عاد انكيدو للحيوانات وجدها تفر منه وتستوحشه، وكأن الفارق والحاجب الذي كان بينهم هو الجنس!
وفقد إنكيدو حياته الهانئة ودخل في صراعات مع جلجامش انتهت بعقد صداقة وثيقة إلا أنها لم تدم طويلاً لموت إنكيدو الذي رحل وترك صديقه جلجامش مفجوع وحزين!
رحيل إنكيدو سبب صدمة لجلجامش وبدأ رحلته في البحث عن سر الخلود هذه الرحلة التي انتهت بقناعته بأن الخلود بعيد المنال وما يمكن أن يفعله هو أن يسعد زوجه وأطفاله ويعيش حياة فاضلة.
هذه الحكاية تدور حول اللذة والحكمة فالأولى سرعان ما تتلاشى وتصبح كالسراب بينما الحكمة تبقى.
رسم متخيّل لأسطورة السفينكس، معروض في Museum of Fine Arts Boston
تمثّل أسطورة جلجامش مخاوف الإنسان وتمييزه بين الحقيقة والوهم وبحثه عن معنى للحياة يتجاوز اللذات المحسوسة ويبحث عن القيمة الحقيقية، ويمكن أن نجد هذه المخاوف ماثلة أمامنا في أسطورة “السفينكس” Sphnix فهذا المسخ الأسطوري الذي يعلوه رأس امرأة وجسم أسد وجناحا عقاب ويخنق الإنسان باحاجي، ومن يخفق في الإجابة يخنقه حتى الموت!
يرمز شكل السفينكس إلى أن الرأس الأنثوي يمثل الحدس لأن الإنسان يحتاج بعض الأحيان إلى إلهام ومعرفة تتجاوز العقل والمنطق وهو أشبه بإحساس عقلي.
أما جسد الأسد فيرمز إلى أن الإنسان بحاجة لقوة في البحث والتقصي ومصارعة الأفكار، وأما الجناحين فترمز إلى الارتقاء العقلي والرؤية من الأعلى، ومن أشهر أحاجي السفينكس أحجية تقول:
“من هو الذي في الصباح يمشي على أربع وفي الظهيرة على ساقين وفي المساء على ثلاثة؟”
ومن الواضح أنه يشير للإنسان، ويمكن تبسيط الأحجية إلى سؤال: “من أنا؟ وإلى أين أذهب؟ وما هو مستقبلي ومعنى حياتي؟” وهذه هي الأسئلة التي خنقت الإنسان منذ وقت مبكر، وزادت حياته صعوبة واضطراب.
ويمكن أن نلاحظها أيضا في قصة “صندوق باندورا” فبحسب الأساطير الإغريقية فقد وهب زيوس باندورا صندوق وطلب منها عدم فتحه، وعندما فتحته خرجت من الشرور والمصاعب مما اضطرها للمسارعة إلى غلقه وكان آخر ما خرج من الصندوق هو شعاع وهاج يمثل الأمل، تجاور الأمل والشرور في صندوق باندورا مفارقة غريبة! وكأن المصاعب مقرونة بالأمل.
كانت الأساطير والحكايات والملاحم هي القالب الذي استوعب تجارب الإنسان وهمومه وكل ما يختلج في صدره، ومن خلالها عالج مشاكله عن طريق الحكايات البطولية للصبر والشجاعة والإقدام، كانت خبزًا للجميع يعتاش عليها المسحوق والإمبراطور، تستقى منها القيم الأخلاقية والمعاني السامية، لم يجد الإنسان سوى هذه الطريقة ليستخلص المعنى لحياته من خلال بطولات الماضي.
مع ظهور الفلسفة في العالم الاغريقي أصبح تعامل الإنسان مع الحياة مختلف، فتزايد الاشتغال العقلي والنقد حتى وصل ذروته عند سقراط الذي كان يسخر من حكايات الإغريق وآلهتهم، وكانت هذه هي التهمة التي وجهت له في المحكمة: “تحريض الشباب للسخرية من أعرافنا والآلهة”، في هذه الأثناء ظهرت الرواقية التي جعلت من الأخلاق حجر الزاوية في فلسفتها العملية، وقد شكلت الرواقية قاعدة جماهيرية غفيرة اتسعت حتى دخل فيها أقل الطبقات الاجتماعية “الرقيق” ومنهم الفيلسوف “إبكتيتوس” وكذلك أعلى الطبقات الإجتماعية ممثلة بالإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس.
وكان حضور الرواقية في روما والمشرق كبير، إلا أنها بدأت بالتراجع مع انتشار المسيحية وصعود قساوسة الكنائس الذين احتلوا المكانة التي كان يشغلها الفلاسفة، وخفت نجم الرواقية وظهرت رواقية مسيحية تتوافق مع تطلعات الكنيسة ومع الوقت اختفت الرواقية ولم يعد لها وجود.
وتسارعت وتيرة التغيرات في الفكر خصوصاً في العالم الغربي؛ وكانت هذه التغيرات مسبوقة بنظرة فلسفية تؤطرها –سبق شرحها في مقال: الإنسان والطبيعة.
يقف الإنسان في يومنا بعصر السيولة حيث كل شيء مائع مما افقده البوصلة وأصبح كالسفينة التي تتخبطها الأمواج بدون أن يكون لها حول ولا قوة، فحياة الإنسان أصبحت محكومة برأسمالية جشعة سلّعة كل شي، وغدت متطلبات “السوق” هي المعيار الأول والمحك الذي تقيم حياة الإنسان بناء عليه، وتزايدت الضغوط النفسية وتزامن ذلك مع فقدان الطمأنينة؛ فالكل يجب أن يركض خلف المال والأضواء والنجاح والوصول للرقم الأول!
مهما ركضت تزداد المسافة بينك وبين المحك، فالهوة تزداد، والطموح والآمال كسقف هوى على رأس صاحبه فحطمه، فإذا أضفنا إلى ذلك المصاعب النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الإنسان بسبب بيئته فسيكون كاهل هذا المطحون مثقّلًا بأعباء لا طاقة له على حملها.
هنا تظهر الفلسفة وخصوصاً المدرسة الرواقية، لتساعدنا على إعادة تشكيل المشهد والخروج بأقل الخسائر، فالتداوي بالفلسفة لا يعني حياة بدون منغصات ولكن حياة بالحد الأدنى من المنغصات.
إذن ما هو الطريق الذي نسلكه للتداوي بالفلسفة؟
ولعلنا بعد هذا الاستعراض أصبح من السهل علينا ولوج الموضوع بكل يسر وسهولة، فالمشكلة الرئيسية التي يعاني منها الإنسان هي في أفكاره فالفكرة تقودك بحسب وجهتها فأنت تابع للفكرة بمجرد أن تولد هذه الفكرة في ذهنك. فما هي فكرتنا عن الأشياء؟
دائماً نتطلع لحل كل شي ونغضب عندما نفشل ونبدأ بلوم الذات على كثير من الأخطاء أو الأشياء التي لم نوفق في تحقيقها أو تعديلها.
بحسب الرواقيين فالأشياء تنقسم إلى ثلاثة:
مهمة وضرورية (حياتك، صحتك)
مهمة وغير ضرورية (المال، الجاه والمنصب)
غير مهمة وغير ضرورية (الشهرة، السفر)
ويقسم الرواقيين الأفعال إلى ثلاثة:
أفعال في نطاق إرادتنا وتستطيع تغييرها (صحتي، مزاجي، جسدي، عقلي)
أفعال خارج نطاق إرادتنا و نحاول تغييرها (أبنائي، زوجتي)
أفعال خارج نطاق إرادتنا ولا نستطيع تغييرها (رأي الناس، الطقس)
“من الأشياء ما هو في قدرتنا وطوقنا ومنها ما ليس في قدرتنا وليس لنا به يد، فما يتعلق بقدرتنا: أفكارنا ونوازعنا ورغباتنا وبالجملة كل ماهو من عملنا و صنيعنا، وأما ما لا يتعلق بقدرتنا فهو كل ما ليس من عملنا وصنيعنا.” إبكتيتوس -المختصر
تكمن مشكلة الإنسان بأنه يحاول أن يبسط سيطرته على كل هذه الأنواع، ففي الأشياء يحاول أن يمد يده للأشياء المهمة وغير الضرورية وغير المهمة وغير الضرورية ليضيفها إلى حصيلته من الأشياء المهمة والضرورية، وهنا يقع في صعوبة وكأنه يحارب على ثلاثة جبهات، كما أنه يحاول أن يبسط نفوذه أيضا على الأفعال التي خارج نطاق إرادته بنوعيها التي يستطيع تغييرها كحياة أبناءه وزوجته أو التي لا يستطيع تغييرها ولكنه يقاتل ليغيرها كرأي الناس، هذه المعارك المجانية التي يبذل فيها الإنسان طاقته ويسخر إمكاناته العقلية ليبسط نفوذه تعود عليه في نهاية المطاف بألم وحسرة؛ فالفكرة الرواقية تؤكد على أننا يجب أن نهتم بالأشياء المهمة والضرورية فقط وبالنسبة للأفعال فلا نهتم إلا بما هو تحت إرادتنا ونستطيع تغييرها، لا حاجة لي لأن احول حياة أبنائي وزوجتي لجحيم لكي اطبعهم بطابعي الخاص؛ كما أنه من العبث أن اركض خلف رأي الناس لتغييره فهذا من المحال.
هذا التقسيم الذي طرح الرواقيين يمكن بسطه بالقول أن تفكيرنا مبني على مغالطة منطقية :“ليست الأشياء ما يكرب الناس ولكن أحكامهم عن الأشياء.” إبكتيتوس – المختصر
فيجب قبل أن نباشر العمل على أمر ما أن نموضعه ونُحكم العقل فيه، فهل هذا الأمر مهم وضروري وهل هو في نطاق قدرتي؟ لنأخذ رأي الناس على سبيل المثال، يقول ماركوس أوريليوس: “لا تعلق سعادتك على آراء الآخرين فيك ولا تضع هناءك في أيديهم، ذلك استرقاق طوعي ومصادرة حياة ونفي خارج الذات، وما كنت لترضى أيا من ذلك لو كنت تعرف اسمه الحقيقي”، ويضيف أيضاً: “ما كان يوماً جهل المرء بما يدور في رؤوس الآخرين سبباً للتعاسة والشقاء، إنما الشقي من لا ينتبه إلى خطرات عقله هو، ولا يهتدي من ثم بهديه وإرشاده”، ويضيف: “ما أشقى ذلك الإنسان الذي يظل دوماً لائباً محموماً حول كل شي، منقباً في أحشاء الأرض متحرقاً إلى استشفاف ما يدور ببال جيرانه”.
فالمشكلة الرئيسية التي يعلق الناس شقائهم عليها هو تصورهم للحياة والسعادة، فالرواقيين يعتبرون السعادة كالدائرة تامة ولا فرق بين الدائرة الكبيرة والدائرة الصغيرة فجميعها دوائر، ويقول ماركوس أوريليوس: “حتى لو قدر لك أن تعيش ثلاثة آلاف عام أو عشرة أضعاف ذلك، فاذكر دائماً أن لا أحد يفقد أي حياة غير تلك التي يحياها”، ويضيف:
“أن ما يُسلب من المُعَمر هو ما يُسلب من أقصر الناس عمراً فليس غير اللحظة الحاضرة ما يمكن أن يسلب من الإنسان، فإذا صح أن هذه اللحظة هي كل ما يملكه فمن غير الممكن أن يفقد ما ليس يملك”.
فبحسب إبكتيتوس فالأشياء التي ليست في قدرتنا فهي عرضة للمنع وأمرها موكل لغيرنا والتعلق بها يسبب العبودية، ويشير بأن على الإنسان أن يسلك في الحياة سلوك المآدب؛ فإذا عرض عليك أي صنف فامدد إليه يدك ونل منه قسطك باعتدال، وإذا فاتك لا تبحث عنه ولا تمد إليه رغبتك بل انتظر حتى يصل إليك.
فعلى الإنسان أن يدرب نفسه على الاسترخاء والتأمل والتفكير في الأشياء التي حوله!
ما الذي يقع في نطاق قدرتي واستطيع تغييره ومالذي لا طاقة لي به؟ ، وماهي الأفكار التي تحرك مشاعري والتي تتملكني واشرع بتفكيكها لكي أتخلص من نفوذها؟ فالأفكار تملك نفوذ أقوى من الدول والجيوش، فالتدريبات الرواقية التي يقترحها بيير هادو في “الفلسفة طريقة حياة: التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو“ هي أن نركز على الأفكار التي تقف خلف المشاعر ونعيد تركيبها بما يساعدنا أن نعيش بسلام بدلاً من أن نعيش في عذابات لا تنتهي.
حاولت بقدر المستطاع أن أوجز في عرض الموضوع بشكل سريع إلا أني دائماً ما اخفق في هذه المهمة خصوصاً إذا كان موضوعاً شيقاً وجذاب؛ لذلك اقترح هذه الكتب التي ستساعدك وتدلك على الطرق التي من خلالها يمكن أن يتداوى الإنسان بالفلسفة*.
* قائمة الكتب، هي:
-ماركوس اوريليوس، التأملات، ترجمة عادل مصطفى، دار رؤية.
-إبكتيتوس، المختصر، ترجمة عادل مصطفى، دار رؤية.
-بوئثيوس، عزاء الفلسفة، ترجمة عادل مصطفى، دار رؤية.
-سينيكا، رسائل من المنفى، ترجمة الطيب الحصني، دار صفحة سبعة.
-سينيكا، العفو والانتقام، ترجمة حمادة أحمد علي، دار أفاق.
-سينيكا، محاورات السعادة والشقاء، ترتجمة حمادة أحمد علي، دار أفاق.
-بلوتارخ، كيف تستفيد من أعدائك، ترجمة مصطفى الورياغلي، المركز الثقافي العربي.
-بيير هادو – الفلسفة طريقة حياة: التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو، ترجمة عادل مصطفى، دار رؤية.
-الآن دو بوتون، عزاءات الفلسفة، ترجمة يزن الحاج، دار التنوير.
-الآن دو بوتون، قلق السعي إلى المكانة، ترجمة محمد عبدالنبي، دار التنوير.
-انطوني آرثر لونغ، كيف تكون حُراً، ترجمة رزان يوسف سلمان، دار المدى.
-عادل مصطفى، المغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوري، دار الرؤية.
-فريدريك لونوار، في السعادة: رحلة فلسفية، ترجمة خلدون النبواتي، دار التنوير.
-فريدريك لونوار، المعجزة السبينوزية: فلسفة لإنارة حياتنا، ترجمة محمد مطيمط، دار التنوير.
-برتراند راسل، انتصار السعادة، ترجمة محمد عمارة.
-سبينوزا، رسالة في إصلاح العقل، ترجمة جلال الدين سعيد، دار سيناترا.
-هنري بينا رويز، دروس في السعادة، ترجمة محمد نجيب عبدالمولى، دار سيناترا.