في أراض وعرة للحكايات الصوفية، بزغت شمس أيام أخف وطئًا، وترعرت بين أجنحتي روح تكاد تطير.
يا قارئي، قل لي: إلى أي شيء تتوق؟
فكل ما عندي جواهر ولآلئ، وكل ما بين جنبيّ حكم ومعاني.
تغني الحكايات الصوفية، قادمة من أغوار سحيقة، تأتي لتقول: توقف، ومني تلقّف. فمتى يكون قارئها قارئًا؟ ولم قد يُقدِم على الغياب في عوالمها التي لا أكيد فيها؟ إنها فخ حقيقي لمن يبحث عن فخ، وحكمة متربصة لمن لا يبحث عن شيء! أجمل ما فيها أنها تُقرأ ألف ألف قراءة، فكل قارئ له منها نصيب، ولكل قلب منها ما وعى.
قرأت مرة حكاية من مثنوي جلال الدين الرومي، تقول أن رجلًا طرق باب صديقه وقد كان على موعد معه، فسأله: من بالباب؟ أجاب: أنا بالباب، فرد عليه: اذهب فما لك عندي من مكان وليس الوقت ملائمًا لمثلك! ولشد تأدبه ذهب، وحال الحول ومضى عام ثم عاد إلى باب صديقه، فطرق مرة أخرى، محترزًا متهذبًا شديد الحذر من أن يسيء أدبه ثانية، فإذ بصاحبه يسأل: من بالباب؟ فرد: أنت بالباب. ففتح له وقال: الآن تدخل، فهذه الدار لا تتسع لاثنين كلاهما يقول أنا.
لا أذكر كم من الوقت صحبتني هذه الحكاية، وصرت بها إنسانًا أكثر، آمنت أن وجودين لا يكتملان، إلا أن يكونا واحدا. دربت نفسي أن أكون مع من يكون معي، فأصحبه كأننا نفس واحدة لا اثنتان. لم تكفّ الحكاية قط عن الوثوب أمامي بثوب جديد: مثل أن على المرء الإقلال من الحديث عن نفسه كصورة للخفوت الذي يجعله والآخر في حضرة النور معًا.
كنت حينها أتفكر كم يصعب على إنسان يعيش في هذا العالم المتماوج بالرغبات المحتبس بالكلمات أن يفعل هذا، إذ يشعر كلما التقى بصديق أن اكتظاظًا حقيقيًا في داخله يدعوه لفض الجموع من نفسه إلى الآخر، من فضاء يضيق به إلى عالم يظنه متسعا، فيود ألّا يسكت أبدا. لكن الحقيقة، أن الآخر مثلنا تمامًا، تسكنه حشود إثر حشود. تعلمت أن أجلس إلى صديق فأسيح معه كأنما سافرت إلى عالمه، وأتركه يعبّر ويجلو ما في نفسه وأنا صامتة إلا من المشاعر والإيماءات والإشارات: أن أَكمِل وهاتِ.
صقلت هذا الحبّ صادقًا نابعًا من أعماقي للآخر، وبه وعن طريقه عرفت الكثير عني. ويا للغبن، بعد رحلة العمر هذه يعرف المرء من الصمت ما لم يعرف من الكلام، ومن الخمول ما لم يعرف من الشهرة والظهور، ومن حكاية ما لا يخطر على بال كبار الأساتذة وعظيم المواقف.
رحلتي لم تنته مع تلك الحكاية بل ابتدأت. أخذت أكتب أكثر وأبحث في كنوز الحكايات الصوفية حتى احترقت من دهشة ما رأيت. كيف لم يخطر ببالنا أن نعيد رواية تلك الحكايات وإحياءها؟ ربما يشكل تعقيد ورمزية الحكايات الصوفية حيلولة بينها والقارئ العادي. لكن أن يتذوق المرء تلك الحكايات شيئًا فشيئًا ويقرأ تفسيراتها وترجماتها، أمر جدير بالتجربة.
دعوني ألفتكم إلى حكاية أخرى، قلبت فيّ الموازين وجعلتني أشعر أن الخلاص في الحكايات ليس أمرًا غريبًا ولا متطرفًا. إنها علاج أصيل وفعال لأمراضنا الروحية والمجتمعية، ذلك أنها تدعونا برفق إلى الصراع الهادئ مع أنفسنا، مع التناقض الذي نعيش. إنها تعلمنا كيف نسخر هذه العوالم في سبيل أن نكون خلفاء حقيقين بهذه الأرض، نرى بعين القلب لا برؤية العين.
تقول الحكاية أن بغلًا رأى جملًا ذات يوم، فقال له: إنني كثيرًا ما أتعثر في الأرض الوعرة وفي الطريق وفي السوق وفي الحي! وخاصة عندما أكون هابطًا من قمة الجبل لسفحه، أسقط كل لحــظة على رأسي من شدة الخوف. أما أنت، فقليلًا ما تنكب على وجهك فما السبب؟ ألروحك الطاهرة في حد ذاتها كل هذا الحظ؟ أنا في كل مرة أسقط ويميل السرج والحمل من فوق ظهري وأتعرض لشديد الضرب كل حين، فقل لي كيف لا تفتك بك هذه الآفات مثلي؟
قال الجمل: بالرغم من أن كل سعادة من الله، فإن بيني وبينك فروقا. أنا مرفوع الرأس وعيناي مرفوعتان والرؤية التي تشرف من علٍ أمان من الضرر. أنا أرى سفح الجبل وأنا في قمته وكل أرض مستوية وكل حفرة مرحلة بعد مرحلة. وأنت من ضعف عينيك ترى ما تحت قدميك فحسب. فأنت عاجز ودليلك عاجز، والعين هي الدليل والقائد.
ومن هذه الحكاية، أخذت حكمًا لا تحصى، فالرؤية حين تكون من مكان أعلى وأبعد تكون أكثر استبصارًا. فيا من تقرأ وليس لك في عينيك نور ولا شغلت بإصلاح قلبك ليرى، لا تسأل ما بالك؟ فأنت إن لم تصلح دليلك – قلبك – لن ترى.
وهكذا.. ستأخذك الحكايات الصوفية في منعطفات النفس البشرية، لتتعرف عليك، ثم لتبصر بعينيك، ثم لترى بقلبك. إنها لشد وعورتها قد تبدو لأول مرة رموزًا متشابكة عصية على الفهم والتلقي. تتطلب أحيانًا إعادة كتابة وتبسيط على مستوى الكلمات أولًا، -كما فعلت مع الحكايتين السابقتين – لتُفهم. ذلك أنه يغلب على أسلوب ورودها تعقيد وتداخل. لكنني رغمًا عن ذلك أدعوك إلى الإبحار في عوالمها، إذ في نهاية المطاف ستكشف عنك حجابها، وستساعدك على الرحيل إلى باطنك وتتبعه ومراقبته، لتلتقي بطبيعة الحياة متمثلًا رسالتك فيها.
وليست الحكايات وحدها بل الأمثال والعبر، والفِكَر. كل شيء في الأدب الصوفي يدعوك إلى الإنسان فيك، ويا لرحابة وجمال تلك الدعوة، إذ أنت لن تعود نفسك ولن تعدم متعة في كل قراءة.