جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

عاجل من عقبة حبو
22 أيلول
السفر

عاجل من عقبة حبو

22 أيلول

|

السفر
بدعم من

مقدمة عن «تاريخ الإنسان وتصميمه البيولوجي» 

مرحبًا، قد أبدو للكثير ممن يعرفوني في اليوم الحاضر كشخص مُتمدن على المعايير كافة، ابتداءً باعتمادي الكبير على التقنية للحصول على مصدر دخلي، إلى اهتمامي بالعمارة، والأزياء، والفنون، والأنثروبولوجيا وغيرها من الاهتمامات والنشاطات التي لا تكون لها فاعلية ولا وجود فلسفي إلا داخل محيط جغرافي مُتمدن أو «مُتحضر». أكتب الآن هذه المقالة بعد أقل من (12) ساعة من مغامرتي المُرعبة في عقبة حبو في منطقة عسير. 

بالمناسبة على الرغم من كوني أبدو «ولد مدينة» إلا أنني من مواليد قرية بين الجبال أيضًا، ولكني لم أعتد العيش في أحضان الطبيعة في العراء بشكل كامل. فـالقرية التي وُلِدت فيها وعشتُ طفولتي في مزارعها أشبه بالمدينة واحيانًا تنافس المدينة في اكتظاظاتها وضيق أنفس من يعيش داخلها. لم يخطر بهواجيسي طوال الثلاثين سنة الماضية بأن أعيش ولو لأيام معدودة بشكل فعلي ودون الاعتماد على أي وسيلة خارجية سواءً تنقية أو مساعدة أحد «طيور شلوى» الذين اعتادوا «الكشتات»، لا أريد أن أكون متفرجًا كما تعوّدت عندما أذهب إلى نزهة برية. اعتمادي على من يدير «الكشتة» أشبه باعتمادي على «جاهز»، وخرائط «جوجل» وشبكة الاتصالات، كلها تعطيك وهم التجربة.
 

ماوكلي في «عقبة حبو» 

قررت أن أشد الرحال إلى «أبها» في منطقة «عسير» وتوجهت تحديدًا إلى جبال السودة ومن ثم إلى «عقبة حبو». معنى «عقبة» هو الطريق الصعب في وسط الجبال. «عقبة حبو» في «السودة» مكان مُدهش، مخيف، بديع، صعب، سهل، آخاذ، مُهيب. حملتُ معي في السيارة خيمة مبيت، وأكل بسيط وغير متكلف، كرسي، مياه وكتاب. كان هدفي من الرحلة أن أُراجع نفسي واستكشفها، ولكني تفاجأت بمجرد أن وقفت أمام تلك الجبال الشاهقة التي تملأ الأفق بشكل مُمتد وبديع ولانهائي، أنني فقدت نفسي التي كنت أود أن أستكشفها. وفقدت مُقلقاتي التي كُنت أود أن أفهمها. ومخاوفي التي سارعت في التعبير عنها.  المشهد عظيم وآخاذ، يستهلكك كفرد. أنا كنت مجرد جزء من كل، لا يوجد لديّ وجود خاص أو ما يدعى بـ «الأنا». أنا لا شيء وكل شيء في نفس الوقت. كل شيء كان مثالي واستثنائي إلى أن غربت الشمس.

حركة الشمس والتصميم البيولوجي 

وددتُ في وقت الغروب أن أحفظ المشهد في ذاكرتي وأحمله معي في حقيبتي. غروب الشمس وشروقها ليس مجرد مشهد جميل أو حدث طبيعي ومعتاد. بشروق الشمس في الخارج تشرق شمسك بالداخل لتبدأ يومًا جديدًا محملًا بالكثير من التحديات والمخاطر، وبغروبها يغرب جميع ما سبق، وكأنها «ين يانغ».

 كانت التحديات التي أواجهها لحظة بلحظة من عدم قدرتي على التحكم في المناخ إلى أصوات الكائنات المفترسة كالضباع والذئاب وغيرها يجعل التجربة غير سهلة، الطبيعة ليست «كيوت»، الطبيعة ليست أمك، الطبيعة يجب أن تكون يقظ وحيّ للتفاعل معها وهذا أكثر ما لاحظته حينها. يبدو أن اختفاء المُقلقات والتشتت لم يكن بسبب جمال المناظر فقط، ولكن بسبب كون أجسادنا مُصممة بشكل «بيولوجي» لأن تواكب هذا الكم الكبير من المخاطر الطبيعية اليومية. أن تعيش اللحظة ليس مفهومًا يُنظر به، هو حقيقة تعيشها رغمًا عنك. لا تستطيع ألا تكون يقظًا وحاضرًا بكل ما فيك، بدون الانتباه العالي لا تستطيع أن تنجو في الطبيعة.

قبل أن أكتب المقالة، تفكرت في حالنا داخل المدينة وكيف أن التشتت وفرط التفكير المرضي أصبح وكأنه حالة طبيعية داخل المدينة على الرغم من يُسر العيش فيها، لماذا؟ 

العيش في المدينة وديناميكية صناعة المقلقات في حياة آمنة

 لم يعد سرًا أن الإنسان كائن تراكمي. وأقصد بكائن تراكمي أن ما عاشه أسلافك من نمط عيش لا يزال مُحرّك أساسي فيك اليوم ومسجل في شفرة الـ (DNA). جسدك الذي يخولك بقراءة هذه المقالة مُصمم بشكل بديع لمواكبة كل التحديات الطبيعية، مُصمم ليواجه المُفترسات، والأجواء المناخية القاهرة، والفيروسات القاتلة، والتضاريس الوعرة. جسدك مركبة مكوكية نفاثة خارقة نجت من العديد من الكوارث والظروف القاهرة، ثم ماذا حدث؟ 

ظهرت الحداثة والمُدن المليونية المُصممة بأحدث التقنيات لتجعل حياتك اليومية تناسب ذائقتك الشخصية. في غرفتك تختار درجة الحرارة المناسبة لك بضغطة زر، وتأكل ما لذ وطاب من دون أن تحرك ساكنًا بمجرد ضغطة زر، تتواصل مع الآخرين دون أي وجود حقيقي ولا مجهود يذكر بضغطة زر، تنتقل من مكان لآخر دون أي مجهود بدني. كل تحتاجه أن تضغط زر، تحمي نفسك من البرد القارس بأجود الأقمشة في أقصى بقاع العالم بضغطة زر. كم هو بديع هذا العالم! أليس كذلك؟ 

دعني أخبرك أن جسدك لم يُصمم ليضغط زر، ولكنه صُمم ليضغط أزرار الطبيعة بالكثير من التأملات والمجهود الشاق. جسدك مُصمم ليكون يقظًا دائمًا بالكثير من المستشعرات الذكية جدًا، جسدك أذكى من أن تعرفه وأعمق من أن تدركه. وعندما نعيش الحياة السهلة وهو مُصمم لغير ذلك يبدأ بافتعال التحديات غير الموجودة، والتحليلات غير اللازمة، والتفسيرات اللامنطقية. يبدأ بصناعة المُقلقات كونه لم يفهم السهولة ولم يعتد عليها. اليوم نعيش القلق لا لأن حياتنا فعلاً مُقلقة، ولكن بسبب سهولتها الفجة. اليوم نعاني من الاضطرابات النفسية لأننا لم نواجه ما نحن مُصممين لأجله. 

أن نواجه صعوبات لنأخذ الثواب كنتيجة مُباشرة. في «عقبة حبو» كان كل مهمة تافهة تعتبر تحديًا صعبًا، الأكل عملية مُرهقة، ولكن الشبع بعدها يحمل لذَّة لا مثيل لها. الانتقال من مكان لآخر شاق، ولكن الوصول نعيم وراحة. ما أُشاهده في محيطي يأمرني بالتواضع والتسامي. قد تبدو الفكرة غير مُجدية للكثير، لماذا أصنع تجربة شاقة وما الهدف من كل هذا، نحن أبناء اليوم لا الأمس!  

الحل (عيش الطبيعة غير الآمنة والمخيفة لهدف التهذيب والامتنان) 

لماذا يجب أن تسافر بشكل بدائي؟

أولاً، كل ما ذكرته في المقالة لا يعني أن نعود للوراء، نحن أبناء المدينة، والإنسان يمضي بشكل تراكمي وإلى الأمام. ما أود قوله هو أن نصنع مبدئيًا صعوبات طوعية في حياتنا داخل المدينة، على سبيل المثال اصنع أكلك بنفسك ولو لمرة واحدة في الأسبوع وخذها على جميع المراحل اتجه لاختيار المقادير والاحتياجات بنفسك من الـ «سوبر ماركت»، اخترها بعناية كمن يقطف الأزهار. اطبخها في منزلك وادعو من تحب ليشاركوك هذه التجربة الحقيقية بدلًا من أن تطلب بشكل مُباشر من خدمات التوصيل.

انجز بعض المهام مشيًا على الأقدام ولو كان الجو حارًا، قاوم المناخ، اصنع تجربة شاقة. أُخرج عن المدينة ولو مرة في كل شهر. اختلِ بنفسك. واجه مناظر طبيعية سواء نفود لا نهائية أو جبال متسلسلة، أو بحر مُهيب. اجعل هذه المناظر تُطهرّك من مرض العصر «التهاب الأنا الحاد»، عندما تتأمل مخلوقات الله البديعة تعلم بغباء فكرة أنك محور الأكوان المتوازية.

 وأخيرًا، سافر كل ثلاثة أشهر على الأقل لمنطقة من بيئتك المتنوعة سواءً في جبال «عسير»، سواحل «جدة»، جزر «جيزان»، شلالات «تنومة»، نفود «نجد»، مزارع «الأحساء» وغيرها الكثير من المناطق التي تنتمي إلى ذاكرتك البيولوجية كعربي ويستطيع جسدك أن يتعايش معها بشكل سريع، فتشعر بالحنين البيولوجي في كل لحظة. 

أشعر بالحنين الآن بعد مضي أقل من يوم، لا بأس سوف أكرر التجربة قريبًا وأتمنى أن أكون أوصلت ما في وجداني لك. 

18
0
اشتراك
تنبيه
guest

1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

كيف نقرأ الكتب؟
30 كانون الثاني

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 7 دقائق
ثنائية الحزن والشغف
21 كانون الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 5 دقائق
عمري ثلاثون، لكني في العشرين
7 نيسان

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 6 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً