جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

بين العقل والمشاعر
21 كانون الثاني
النفس والعاطفة

بين العقل والمشاعر

21 كانون الثاني

|

النفس والعاطفة

لطالما كانت المشاعر بطلةً متصدرةً أمام المواقف التي أمرُ بها، رافضةً إفساح المجال للعقل كي يتخذ القرار، أو إشراكه فيما تفعل، سواء كان الأمرُ متعلقًا بقرارٍ أو حكمٍ أو فعلٍ أقوم به. المشاعر هي من تحدد الخطوة التالية، وهي المتحكمة في ردود الفعل التي يجب أن أبديها. ظننت في البداية أن ما يحدث هو محضُ تعاطفٍ صحيّ تبديه تجاه ما تمرُّ به، وأنه لا حكم على المشاعر، فهي تعرف ما تقوم به، ولن تُقدم على شيءٍ غير منصف. إلا أنّ جوانب ضعفها بدأت تتضح مع مرور الوقت، وأصبح من الصعب عليّ أن أجعلها تُدير دفّة حياتي بمفردها، فأردتُ أن يحتل العقلُ منصبًا يمكّنهُ من السيطرة على مجريات الأحداث، إذا ما خذلتني المشاعر وتصرفت على سجيتها.

دور العقل تجاه الذات

يعتقد الأشخاص العاطفيون أن المشاعر لا تخطئ، فهي معتمدةٌ على حدسها القوي تجاه ما تواجهه، وحدسها مقدسٌ ومنزهٌ عن الخطأ. لكنها، في الواقع، تتصرف وفقًا لخطةٍ غير مدروسة، تحمل جوانب صائبة وجوانب خاطئة. ومن يعمل على تصحيح تلك الجوانب الخاطئة بتدخّله السريع هو العقل، بحكمته واتزانه في النظر إلى كافة الجوانب، فيرى الأشياء برؤيةٍ أكثر عمقًا وشمولية. ولا يظلم الذات التي خوّلته لينوب عنها، ويجنّبها الوقوع في مواقفٍ تُضعفها، وتجعل من استغلالها أمرًا مستباحًا. فتكون كلمته بمثابة حسمٍ للجدالات والصراعات القائمة، فيفصل بين العاطفة الجامحة، ويهدّئ من سرعتها وعشوائيتها التي تنجرف بها، محدثةً آثارًا بليغةً لا يمكن أن تزول في أغلب الأحيان.

سلطة العقل على المشاعر

قد تثور المشاعر وتنزعج من قمع العقل المتكرر لها وتدخلاته غير المبررة بالنسبة لها، فيتنامى لديها إحساسٌ بعدم أهميتها وجدوى قراراتها. لكن هذا الثوران سرعان ما يهدأ ويتحول إلى قناعةٍ ورضا، عندما تدرك المشاعر أن العقل على حق فيما يفعله، وأنه يستمر في إنقاذ الذات مرةً تلو الأخرى، مهما كان الموقف صعبًا. فيثبت في كل مرةٍ أنه يستحقُ تقلّد هذه المكانة بجدارة؛ لأنه يقف كسدٍّ منيعٍ في وجه الكوارث والمصاعب التي تُحدثها فوضى المشاعر عند اختلال توازنها، فتحكم بعاطفةٍ مشوشة، وتنظر بمنظورها الخاص، من وجهةٍ واحدةٍ أقل عقلانية، وأكثر عاطفية.

رضوخ المشاعر لحكمة العقل

يستطيع الإنسان أن يفرض سيطرته على تعارض عقله مع مشاعره تارةً، ويفقد سيطرته تارةً أخرى. وليس الأمر بذلك السوء دائمًا، فهذه طبيعةٌ لا يحكمها المنطق. فللمشاعر صوتٌ أعلى عند البعض، وكلمةٌ مسموعةٌ لا حياد عنها، يتّبعونها وإن كان أثرها السيء يغلب على الجيد. فهي أقوى من مجاهدة العقل على استعادة زمام الأمور، فيبدو صوت تحذير العقل منخفضًا، يكاد ألا يُسمع؛ لأن المشاعر أحكمت إغلاق المنافذ المؤدية إليه، كي لا يربك الضجيج مسارها، فتمضي حيث أرادت. ومتى ما رأت أن ما تقوم به صحيح، ليس هناك من يمكنه إيقافها. إلا إذا حدث طارئٌ ما أفاقها من حالة التغيّب، وأعادها إلى الواقع. حينها تصبح معترفةً بعجزها، وتسلّم العقل القيادة. وغالبًا ما تكون إفاقتها جرّاء اصطدامها بحائطٍ يحول بين مضيّها قُدمًا نحو مبتغاها. تستوعب بعدها أن الطريق مسدود، وأنها لن تتمكن من الخروج بلا مساعدة.

قد تحيط بالمشاعر نظراتٌ لائمة شامتة من العقل، بسبب تهورها، لكن ما يغفر لها طيشها هو عودتها إلى الواقع، والاستسلام للعقل ليتخذ موقفًا، ويُحدث تغييرًا. فهدفه الأسمى هو النجاة بالذات، لا إغراقها بتحدٍ للمشاعر وإثبات تفوقه عليها.

الموازنة بين العقل والمشاعر

كما لا يمكن إنكار أن العقل بصرامته وجموده يغفل عن الكثير من الجوانب الإنسانية، أو يطمسها بشكلٍ كاملٍ، فيتعامل مع كافة الأحداث بمنطقه، دون أدنى مراعاةٍ لأوضاعٍ يمكن أن تُستثنى. فكل ما يتعلق بالنفس البشرية يجب أن يُمنح الأولوية، ويُنظر إليه بنظرةٍ أكثر عطفًا وتفهّمًا. وهنا يتجلى دور المشاعر، فهي تملك زمام التحكم بما يتماشى مع الصواب في هذا المشهد خاصةً. لذلك يتنحّى العقل مفسحًا لها المجال لتقود الدفّة، لكنه لا يبرح قُمرة القيادة حتى يتأكد أن المشاعر تتصرف بعطفٍ لا يخلو من الحكمة.

ليس لأيٍ من العقل والمشاعر سيادةٌ تامةٌ على تصرفاتنا وحياتنا، بل لهما مساحةٌ كافيةٌ محكومةٌ برقابة أحدهما على الآخر بلا تفضيل. فلا يصير الإنسان آلةً يحكمها العقل، ويُهمّش دور المشاعر وعاطفتها المُنقذة. بل يكون لكلٍ منهما دورٌ متوازنٌ يؤديانه بما يخدم مصالح الذات.

18
0
اشتراك
تنبيه
guest

1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

ثنائية الحزن والشغف
21 كانون الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 5 دقائق
الإلتزام يصنع الأبطال
19 أيار

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 6 دقائق
سحر التأمل
13 تشرين الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 5 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً