لهدى الفهد.
اليوم أعيش في مدينة مليونية، فيها الكثير من الأعراق والجنسيات المختلفة وهذا الشيء يبدوا جميلًا ورائعًا، ولكن مع مرور الوقت لاحظت أنني لا أعلم من أنا بشكل وجودي حقيقي وليس بشكل ميتافيزيقي، في عملي أتحدث الإنجليزية كتابةً وحديثًا، في وقت الفراغ أشاهد الكوميديا الأمريكية، عندما أهم بالخروج أجد أن ملابسي هي تلك الملابس الاعتيادية لمن يتجول في أمستردام، هنا سألت نفسي سؤالًا: هل هذا النمط هو على السطح فقط، أو أنه يعبر عن اغتراب وجداني وتلاشي لهويتي، ماهي هويتي أصلا ؟
اتضح لي أن ما نعي به عن أنفسنا عادةً هو مجرد رأس الجليد، هنالك جبل عميق تحته، الجبل يُطلق عليه فرويد “باللاواعي” وقوستاڤ يانغ “باللاواعي الجمعي”، ذلك الجبل له جانبيين، الأول تكوّن سيكلوجيًا من خلال تجربتك مُنذ الولادة، والآخر تكوّن بيولوجيًا من خلال ما مر به أسلافك قديمًا، نفهم أن طفولتنا هي حجر أساس تركيبتنا السيكولوجية ولكن أحيانًا لا نتقبل أن رحلة أسلافنا شكلتنا أيضًا!
علامات أسلافنا
فلو نظرت لوجهك بالمرآة، لاحظ تلك الملامح العربية في تفاصيل الأنف ورسمة الأعين وهيكل الجسد، تعلم تمامًا أن ملامحك مشابهة جدًا لملامح جدك ولكن لا نعي عادةً بأن الملامح مجرد الشكل الظاهري، كما تشكلت أجسادهم وملامحهم، أيضًا تلك الرحلة شكلت مخاوفهم، رغباتهم، أعدائهم، عاداتهم، أخلاقهم، الظروف التي مر بها جدك وشكلت ملامحه وجعلت منك الشكل الذي تبدوا عليه اليوم هي ضمن الحزمة التي استقبلتها بمجرد ولادتك، نحن بدون وعي منا بتلك الرحلة أشبه بالآلة الميكانيكية، تتحرك بلا علم بوجهتها!
هذه المقدمة الطويلة أريد من خلالها توضيح حجم الجبل الجليدي الذي يقع تحت فهمنا لدوافع أفعالنا، إنسلاخنا من ذلك الإرث مُبرر ومفهوم، أنا كائن اجتماعي أُريد أن أكون مقبولًا من ضمن مجموعة، وتلك الرغبة هي ما تجعلني أتكيف مع الظروف التي أعيشها اليوم في المدينة ولكن هل فعلاً قبولنا للأشخاص الآخرين مبني على تشابهم معنا؟
في ظاهر الموضوع نعم وهذا ما بدا لي عندما بدأت بحثي في هذا السياق، ولكن بعد تمحيص في السلوك البشري في عصر ما بعد الحداثة، تبين أن القبول لم يعد على نقاط التشابه ولكن على نقاط الاختلاف، فما يجعل مدينةً ما مثيرة كوجهة سياحية هو تميزها واختلافها عن بقية المُدن، سواءً على الصعيد الثقافي، العمراني،الجغرافي، وذلك ما يحدث على صعيد المجتمعات وعلاقات أفرادهم ببعض، فالمصري عندما يتحدث اللهجة السعودية لا يكون مقبولًا كما لو يتحدث لهجته الإسكندرانية، الاختلاف أصبح ميزه في علاقاتنا كما يبدوا في سلوكنا.
إذًا ما هي معايير القبول الاجتماعي الحقيقة؟
أجدُ أنها ، هي:
١- قبول نفسك بشكل حقيقي.
٢- الصدق.
٣- وضوح الهوية.
من نحن
لم نختر أن نولد في هذه المنطقة من العالم، ولم نختر أن نكون ضمن هذه العائلة المحددة، لم نختر أن نتحدث بهذه اللغة ولا أن نرتدي هذا اللباس كزي رسمي، تلك المعطيات غير المُختارة هي التكوين الأساسي لهويتنا التي يجب أن نتقبلها، ونفهمها، ونمتن لها، وأن نتفاعل معها في حياتنا.
يظهر شعور الضياع عادةً عندما يُعزل الإنسان من تلك المعطيات سواءً بالقوة الجبرية “العبودية” أو القوة الناعمة “العولمة”، ولا يعني بالضرورة بأنك أفضل من الآخرين عند اعتزازك بتلك المعطيات، ولكن هذا السلوك يصنع تنوع وجمالية، ويبدو لي أشبه بالنمط الكوني، فلو لاحظت زهرة الخزامي لن تجد لها معنى ورائحة لو لم تكن خزامى، وهذا لا يعني بأنها أزكى من الياسمين ولا الياسمين أزكى من الخزامى، التنوع ووفره الخيارات تعطي معنى لوجودنا لا العكس.
اليوم أجد أنني باستخدامي للعربية أصنع تنوعاً، وبلبسي للعبائه أرتبط بأجدادي، أجد المعمول أزكى وأقرب من الكوكيز، وأجد طاش ماطاش تشبهني أكثر من “freinds”، أجد أن صناعتي المستقبلية سوف تجد معنى أعظم وأعمق متى ما كانت مبنية على تلك الركائز، أجد أنني شجرة تتفرع أغصانها وتثمر متى ما كانت مُتجذرة في أعماق التربة. أنا هنا لا هناك!
يبدو لي أن فهم الحياة ليس غاية ممكنة، ولكن عيشها حقيقة متاحة، ويبدو أن تجذرنا بالتجربة التي نعيشها من خلال التقبل الحقيقي هو السلم الذي ننمو ونرتقي به درجات الوعي الإنساني، ويبدو لي أن فهم دوافعنا هو كُتيب الإرشادات الذي يجب أن نقرأه بتمعن لا أن نُهمله في ظُلمات اللاواعي.