جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

مذكرات إنسان حديث جدًا جدًا
11 آب
الأدب والفلسفة

مذكرات إنسان حديث جدًا جدًا

11 آب

|

الأدب والفلسفة

ولدت في حقبة زمنية غريبة، بعدما كبر العالم وطالت لحية ماكينته العالمية وأصبحت أكثر نضوجًا، عندها سقطت ملامح كل شيء طبيعي، وصار العالم صندوقًا حديديًا مطعّمًا بالبلاستيك والألومنيوم والمذاهب الحداثية النسبية، وفقدت أنا حيوانيتي، وغابتي وحقائقي المطلقة، وحرية ألا يعني لي الاقتصاد شيئًا.

مثل فأرٍ يركض في الدولاب، لستُ عاريًا، بل أرتدي ربطة عنق، لست جاهلاً، بل يقتلني إدراكي لعبثية ما أفعل. أركض ذهنيًا بينما أجلس في مكتبي، لا تقلقني مواسم القحط، بل يقلقني بريد إلكتروني، لا تخيفني أيام المجاعة، بل يخيفني خلل الإمدادات العالمية، ‏لا تربكني غزوات الهمج وزئير الأسود، بل تربكني أخبار الحرب العالمية.

يحاصرني قلق متجدد من صنع يديّ

إنسانٌ حديث أستيقظ لأعبد القهوة صباحًا، ثم أنام ليلاً بعدما استنفدت كل قلقي في خدمة غيري، لا أملك رأيي، بل أُحقن بالآراء في قاعات التواصل الإلكتروني، ولا أملك رغبتي، بل أُحقن بها خلال ثوانٍ إعلانية تقتحم ذهني رغمًا عني، لا أملك ذاتي، بل تمتلكني قروضي. أفكر كتاجر، بينما أعيش كسلعة، أشتري الآخرين كمقتنيات استهلاكية، بينما أسوّق لنفسي كي أُشترى، سوق هذا العالم، سلعة هذا الإنسان، عملية تجارية بحتة تلك العلاقات.

‏يقلقني انعدام الضمانات، لا مستقبل مضمون، ولا حتى اللحظة الحاضرة مضمونة، يقلقني عدم ثبات مكانتي الاجتماعية، فربما أُصبح غدًا ثريًا، وربما أصبح غدًا مشردًا. لا شيء مضمون في سوق الأسهم الكوني هذا.

‏إنسان حديث أمر بما لم يمر به كل أسلافي أو يحلموا به في كوابيسهم، عالم جديد زاهٍ جدًا ومصنّع بعناية، قدرة هائلة على ترويض الطبيعة، وفقد تام للغاية، إذ لا غاية، بينما يحاصرني قلق متجدد من صنع يديّ.

قابل للتفكيك

‏هذا العالم الجديد، ماردنا الذي خلقناه وعجزنا عن ترويضه. ها أنا إنسان حديثٌ جدًا، أنمو في مكعبات الإسمنت وأتجرع المعلبات والمواد الحافظة، وأستلقي مثل نهر يجري حيث إني بعد ثانيتين لستُ أنا قبلها.

‏إنسان حديث جدًا أخشى أن أصير مستَهلكًا ومنتهِ الصلاحية، وأخشى أن يعاملني أصدقائي كما يعاملون مسلسلهم المفضل عندما ينتهون من آخر حلقة منه، أخشى أن تعاملني حبيبتي كما تعامل فساتينها القديمة إذ تهديها للجمعيات الخيرية في نهاية المطاف، إنسان حديث أستيقظ بالمنبه، وأنام بالعقاقير، وأشرب قلقي.

‏إنسان حديث جدًا، رغباتي الاستهلاكية وشهواتي وغرائزي متوقدة بشكل يزيدني بؤسًا، مجفف وجدانيًا وروحيًا ومليء بالمواد الحافظة، أتقوى بفتات الموسيقى والانغماس في الشهوة، وينهشني الاكتئاب إذ تدهسني العجلة الاقتصادية كل يوم.

‏إنسان مشوه نفسيًا، هويتي عائمة وباهتة ككلمات كُتبت بالطبشور، وأبحث عن انتماء، أي انتماء، فمرة أنتمي لعشاق البرغر، ومرة أنتمي لمحبي الرقص ظهيرة كل يوم.

‏انتماءات ولو كانت تافهة لكني أعوض بها شتات هويتي المائعة في عصر انصهرت فيه الهويات فصارت مزيجًا وصار الإنسان مجرد شيء قابل للتفكيك.

ولكني ما زلت أركض كفأر في الدولاب

‏إنسان هائم في اغترابي، ألهث نحو اللا هدف، والركض صار بحد ذاته هو الغاية والهدف، أستيقظ يوميًا لأركض، وأعمل من أجل غيري ويعمل غيري من أجلي ولا أحد يقوم بعمله الخاص، إنه عالم من الخدمات والرفاهية. لا هدف سوى الركض والمزيد من الركض في ماراثون استهلاكي مزدحم.

‏إنسان عابر للمذاهب والأديان، لا أستقر على شيء، يملؤني القلق، ولا شيء مضمون، ربما أصبح إلهًا فجأة، وربما أصبح عبدًا فجأة.

‏وللألوهية والعبودية هنا أشكال مختلفة ومتنوعة، ‏وربما كل شخص يجد نفسه إلهًا من ناحية، وعبدًا من ناحية أخرى ‏هناك من يستعبدني وهنالك من أستعبده، والسلسلة طويلة جدًا.

‏إنسان حديث جدًا، أرقص بينما الموت يحيط بي، وأحاول أن أبقى متفائلًا رغم أن الحرب العالمية تطل من النافذة كل شهرين، أهرب من وحدتي بالانضمام لجماعات انعزالية، وأهرب من فقري إلى التسكع في الأسواق، وأهرب من مأزقي الوجودي بالموسيقى، وأقتنع تمامًا أنه لا جدوى من الركض، ولكني ما زلت أركض كفأر في الدولاب.

‏إنسان حديث جدًا، أريد استهلاك كل شيء، حتى الأصدقاء، أجددهم دائمًا إذا جف الأصدقاء القدامى، ولم يحققوا لي نشوتي الاجتماعية المخلوطة بدهشة البدايات. أسير في متجر العالم باحثًا عن أصدقاء أجففهم ثم أرميهم تحت الشمس في طريقي لدزينة جديدة من الأصدقاء أستهلكها وتستهلكني.  ‏إنسان حديث لا أفكر إلا بطريقة السوبر ماركت، عرض وطلب.

‏إنسان حديث أعامل الآخرين على أنهم منتجات ترفيهية، والويل لكل من يفشل في ترفيهي، عائلتي، أحبائي، مجتمعي، وطني، فكل من يفشل في التجدد وقتل تمللي المزمن أحكم عليه بالرفض والترك والتجاهل وأرسله لقمامة إعادة التدوير.

إنسان مُستهلِك 

‏إنسان حديث جدًا، علاقاتي مجرد تعاقدات مبنية على قاعدة «خذ مني وأعطني» والهدف الوحيد هو أن يستمتع كلنا بالآخر، ووظيفة الآخر هي أن يكون كوب قهوتي اللذيذ جدًا، أستهلكه ويستهلكني، والوعد المطلق بيننا هو أننا سنفترق عندما يتوقف أحدنا عن كونه ممتعًا للآخر، ضغطة زر ونفترق.

‏إنسان حديث أتنفس هواء القرن الحادي والعشرين الملوّث جدًا، وأرى أن كل شيء جميل ومحكم التنظيم وقد وصل كل شيء إلى غايته القصوى. ‏لكن البؤس ما زال يصرخ في كل مكان، في زوايا الأماكن ودواخل الأنفس.

‏إنسان حديث جدًا، أعيش «بين ملذات الاستهلاك وأهوال القمامة»، هذا الإنسان الذي هو أنت وأنا وهي، فرد مائع ثقافيًا، يتفق مع الجميع ولا يشبه أحدًا، مؤمن بكل شيء، ولا يؤمن بأي شيء في ذات الوقت.

‏يعيش هذا الإنسان الحديث اليوم في حالة توتر دائم وقلق متجدد واكتئاب مصنّع بأرقى الطرق الحداثية، ويقف وجهًا لوجه أمام القلق والوحدة والاغتراب. إنه إنسان الحالات المتطرفة وقد بلغ، أو على وشك البلوغ، نهاية وجوده.

لكن هل هنالك أمل لي؟

لأني كائن اجتماعي جدًا، تحركني غريزتي للانتماء والمشاركة فلا بد لي أن أحظى بعلاقات حقيقية يكون فيها تواصلي مع الآخر حقيقيّا جدًا غير مشوب المجاملات ولا مدفون تحت الخوف الاجتماعي والقلق من أحكام الآخرين، وبدوري لابد أن أسمح للآخر أن يكون حقيقيّا معي، لا أحكم عليه ولا أغرقه في نظراتي النمطية.

ولأني إنسان روحاني جدًا تحركني روح غامضة تسكن جسدي، فلا بد لي من أن أكون شاسعًا روحيًا، ولن يتحقق هذا إلا بعلاقة روحية مع المطلق، مع القوة العظمى التي تحرك كل شيء في الكون وتحركني، تلك القوة التي كلما لامستها بطقس ديني، أشعلت بي طاقة من السلام الداخلي المريح والمهيب.

ولأنني إنسان محتاج للحب والتعاطف، فلا بد لي من الاندماج عاطفيًا بمن أحبهم، أن أكون صريحًا في مشاعري، أن أقول أحبك بالقدر الذي أقول فيه مرحبًا، وأحتاج من جهة آخرى لمن يحبني، ويتعاطف معي، ويعانق شتاتي الحداثي المقلق.

ولأنني كائن عقلاني جدًا، حكمت هذا الكوكب بدماغي، فلا بد لي أن أغذيه دائمًا بالمعرفة والفلسفة والعلوم، ولا بد لي دائمًا أن أُمرّن عضلة الدماغ بالأسئلة والبحث الشغوف عن حقائق الأشياء، لأن للمعرفة لذة كبرى كالجنس والطعام والنوم.

ولأن الماكينة المسماة جسدي، مصممة للركض في البرّية، ومبرمجة على إعطائي مكافآت -هرمونات سعادة- بعد كل جهد بدني أبذله، فلا بد أن أمارس الرياضة يوميّا لأعطي هذا الجسد حقه الأصيل عليّ.

وبهذا ربما يمكنني أن أتفادى رصاصات العالم الحديث، لأكون إنسانًا حديثًا جدًا، لا يملؤه القلق، ولا تنهشه الماكينة الاقتصادية، ولا تصهره أفران العولمة.

73
3
اشتراك
تنبيه
guest

5 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

تأملات فتى الأسمنت
22 آب

|

السفر
وقت القراءة: 8 دقائق
في مد الجسور مع مشاعر الذنب
20 نيسان

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق
خطة مستقبلية مضمونة
29 كانون الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 7 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً