عشرة أصابع، عشرة دروس أو أقلّ
لن تحتاج لأكثر من عشرةِ أصابع لعدّ الدروس التي لقّنتها إياك الحياة، في الصّحة والتعلِيم، أو العَمل والعائلة، تلك التي كانت كفيلَة بولادة نسخةٍ جديدة منك، أكثر وعيًا وبصيرة من ذي قَبل، رُبّما تأتيك كصفعة أو أقلّ حدّة، هكذا فحسب، تُصنع العِبرات. ومثلما تسبح السفينَة مع إرشادات مِلاحَة، وشِراعٍ يُراوغ الريّاح من أجل البَقاء، نمضِي إلى الحيَاة دونما علم مُسبق بما سنواجهه، قلّةٌ من ينجح في المراوغة، وكثيرٌ منّا يتوه حتّى وإن سمع الإرشادات كاملة.
في سنتي الأخيرة من الدراسة الجامعية، كنتُ أبحث عن شيء طويل الأمد، امتحن فيه صبري رُبّما، مثل قراءة روايات طويلة، وخطط تعلّم العزف وتبنّي قطة، لكن شيئًا منها لم يكتمل. ما اكتمل فعلًا، بدأ حين التقطت كتاب سحر الترتيب، وتبِعته بحملة تجريد وترتيب في المنزل، انتهت بي جالسة أمام مكتبتنا، أُنقّب في العناوين، حين وجدتُ كتابًا اشتريته منذ زمن، ونسيته «عملية الحضور» لمايكل براون (2010). لقد قلت سابقًا، ربما تلقّنك الحياة درسًا من خلال صفعة أو أقلّ حدّة، ومن خلال الكتاب، تلقّيت سلّما افتراضيا للعودة إلى الوراء، لطفولتي، لذهن الضحيّة، للاعتماد العاطفي على الآخرين من أجل تحسين حياتي الحالية، الماديّة أو المعنويّة، تلك التي تعتمد في بهجتها على مقدار ما يُقدّمه الآخرون لنا، أو يسعون جاهدين لإثباته من أجلنا. وفي عملية تنفس وتدوين تستمر إلى سبعة أسابيع، يُخبرنا مايكل عن مرحلة لاتتداخل مع الدّين أو الميُول أو الرّغبات، إلى رحلَة تبّصر داخلية، نختبر فيها حضورنا الكامل هذا اللحظة، دون العبث في الماضي والسعي الدؤوب للمستقبل، حضورًا نسامح فيه قدراتنا المحدودة، والطريقة التي نشأنا بها مع والدينا، والخطر المجهول من حولنا عن المستقبل، وفرصنا المهنية، وأكثر من ذلك بكثير، حيث كل فصلّ منه يكوّن جسرًا للوصول إلى مرحلة من حياتنا، وترميم مشاعرنا حولها، والعودة إلى اليوم الحاضر، دون أن نحاول محو تلك المرحلة، بكلّ ماينمّ عنها من شقاء وألم. والآن، أشعر حقّا بالامتنان، لتلك القائمة الطويلة، ذو الخطوات التدريجية البطيئة، التي قدّمت لي حلولًا لم أكن أعلم بأنّي أبحث عنها، وغصتُ في تموّجاتها بعيدًا عن سوق العافية النفسية الحديث» التي يُستغلّ حاجتها اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي.
في مُراد العافية النفسيّة والشُّحنة الوجوديّة
في زمنٍ يتزاحم فيه متطلّبات الوعي على أذهاننا أكثر مما يجب أن يحتمل من قضايا سياسية واجتماعية وبيئية، يُصبح للحديث عن “العافية النفسيّة” بُعدٌ أعمق من مجرّد الوقاية الجسدية. فالشُّحنة الوجوديّة – وهي ما يُشحن به ذهن الإنسان من انفعالات بسبب ما يتعرّض له يوميًا عبر الإنترنت من قضايا تتطلّب منه موقفًا أو انفعالًا أو تضامنًا أو غضبًا- باتت اليوم تستدعي مسارات تفريغ وتوازن متجدّدة.من هنا، بات اللجوء إلى ممارسات مثل: الشفاء الداخلي، والعلاج بالصوت والتنفس، وجلسات التأمل الجماعي، ودعم الذكاء العاطفي، وفنون الإصغاء للذات، أشبه ما تكون بطوق نجاة. حتى أنها أصبحت لا تُمارَس كتجربة مؤقتة، بل كمراحل حياتية كاملة، وقد تمتد لعام أو أكثر، يُفرَّغ فيها المرء من أجل تحقيق أعمق للرفاهية النفسية والروحية.
ومما لايقلُّ أهمية عن ذلك، لم تعُد المنتجات والخدمات المرتبطة بهذه التجارب أقلّ أهمية من ممارستها ذاتها؛ من الشموع، والمشروبات الدافئة المصمّمة لتأثيرات مزاجية، إلى الاشتراكات الرقمية مع مؤثرين ومدربين افتراضيين يرافقونك خطوة بخطوة نحو ما يُسمّى اليوم بـ”الصحة الشاملة”. جميعها تُسوّق بكثافة رقميّة، وتلقى إقبالًا متناميًا، يحمل في طيّاته توقًا لجودة حياة حقيقية.
ومع تصدّر العافية النفسية لأهم محرّكات التسويق العالمية، يُتوقّع أن ينمو السوق العالمي لمجالات مثل الشفاء والعلاج الصوتي والنفسي بنسبة تتجاوز 10% خلال الفترة 2025–2034، مع بلوغ قيمته اليوم قرابة 161 مليار دولار. هذا الرقم لا يخبرنا فقط عن ازدياد الطلب، بل عن تزايد حاجتنا للتفريغ، للعودة لأنفسنا، للهروب قليلًا من ضجيج العالم. لكن، وسط هذا الزخم، يُلح السؤال أكثر ّ: هل تحتاج هذه المسارات النفسية إلى تقنين؟ أو إلى إطار يضبط توق الإنسان المتصاعد نحو “التحسّن” حتى لا يتحوّل إلى استهلاك بلا هدف نهائي؟
إشارات تحذير من أجل البصيرة
تتكوّن أزمتنا البشرية الحالية من حاجتنا المستمرة لاستنباط المعنى، والأمل، وإنهاء المشاعر المشحونة بالخوف أو الغَضب المتمحورة حول البقاء أو الفناء، والغنى والفقر، والصحة والمَرض، والبؤس والطمأنينة، هذا الإنسان المُعاصر الذي تتوالى عليه المصائب الوجودية بلا رحمة، سواءً في حياته أو على مواقع التواصل الاجتماعي التي تُشعره بأنه مُلزَمٌ دائمًا بإبداء رأيه تجاه كل ما تقع عليه عيناه، سواء أكان دعمًا، أم رفضًا، أم حتى ثورة على قضية ما، هكذا أصبحنا مشحونين بالوجود، والقضايا من حولنا، تتشكّل نقاط ضعف آرائنا بسهولة، ولا يحتاج المدرّبين الافتراضيين أو المؤثرين أكثر من إدراك ماهية الإنسان المعاصر حتّى يحوّر برامجه المؤثرة من أجله، وكلُّ ما يتطلّب من أجل كسب ثقته، تدعيم خلفيته المؤثرة برسائل مُنمّقة، وفيديوهات قصيرة تسجّل صوتيًا تُظهره بكلّ ثقة وقوّة، ونمط تصميم يحمل هويّة بصرية مُشبعة بالمعنى، وأسلُوب شيّق للحديث، والعمل على خوارزميّات النشر حتى تحقّق نجاحًا ظاهريّا، بهذه البساطة! تنمو حسابات الوَعي الحديث، شيئًا فشيئًا يُشارك يوميّاته، تجاربه الحياتية الفوضوية منها والمثاليّة، وأجزاء لحظات استثنائية لمشاعر ايجابية، ماتترك المتابعين في مأزق الشعور «أريدُ فعل هذا، وموائمة التغيير حالًا».
في هديّة الوداع من عملية الحضور -وهو الفصل الأخير من الكِتاب- يُخبرنا مايكل بأنّه لايمكنك أن توقظ المُخدّرين، لأنهم في سبات عميق ولن يوقظهم الألم الجسدي حتّى. ويقصد بالمُخدّرين أولئك الذين لا يعلمون أنهم بحاجة للتأمل في ماهية شُحنتهم الوجودية، لأن الأمر أشبه بخضّ زجاجة تحتوي على مقدّارين متساويين من الزيت والمَاء. لن تمتزج أبدًا، وستخلّف جهدًا مضني بلا فائدة. أما عبارة “لن يوقظهم الألم الجسدي حتّى” فهو يقصد تجاربهم التي يستمرون في خوضها مع علمهم بأنها تزيد من شحن غضبهم وعاطفتهم حيال قضيتهم الوجودية، ولايُمكنك تحذيرهم. لأنّها ليست مسؤوليتك ولابجُهدك. إمّا أن يتخيّروا ذلك، أو ينتظروا اليَوم الذي ينجحون في عدّ الدروس التي لقنتهم إياها الحياة على أصابعهم، والتأمل فيه حدّة الصفعة التي نتجت عنها.


