هذا موقف في الغالب حدث لمعظمنا؛ كنت جالسًا في ساعة عصرية هادئة، وراجعت حياتك، وشعرت بلحظات من السلام والصفاء الذي لو وزعته على الدنيا لغمرها وفاض، وعندها مرت بخاطرك رغبة تحسين علاقاتك، وفي الغالب أنت حاولت البحث عن طريقة لتُعبر عن اهتمامك ومحبتك بمن حولك عبر السيد قوقل، ولم يُقصر محرك البحث اللطيف في منحك خيارات عديدة، وغالبًا كان كتاب لغات الحب الخمس لمؤلفها غاري تشابمان من أبرزها.
هل فكرت يومًا ما إذا كان الحب كائن حي، وأنه يحتاج انتباهك للغته؟
الحب يحتاج لأكثر من شعورك به، هل تُدرك؟
لدي مقولة مُفضلة عن الحب، لصاحبها عالم النفس والكاتب الأمريكي إم سكوت بك، تقول: “الحب هو الرغبة في أن تتسع ذاتك بغرض رعاية النمو الروحي لذاتك أو للآخر.. الحب هو ما يفعله بنا الحب. الحب هو فعل إرادة، بمعنى أنه نية وعمل. وهو يعني أيضًا الاختيار. فنحن غير مجبرين على أن نحب. نحن نختار أن نحب”.
ولو اتفقنا أن الحب بالفعل يُغير حياة الإنسان؛ يوسع له في مداركه ونفسه، ويزيد إقباله على الحياة، ويدفعه أحيانًا للإنجاز، وللتأمل وللأحلام، فهو مُطمئن بوجود محبةٍ صافية في حياته، وشاهدٍ على أيامه، ومن يهرع إليه بأخباره السعيدة، وفي لحظاته الحزينة. ولذلك فالمشاعر الطيبة وحدها ليست كافية، لأنها غير مُعبرٌ عنها بأي طريقة؛ فمشاعرك الصامتة لن تُحرك في الآخر أي شيء تجاهك، ولن تجعله ينتبه إليك، ولن تجعلك أول صديق يتصل به عند وقوعه في مشكلة أو عند الرغبة في مشاركة خبر سعيد، يحتاج حبك الصامت للغة تُترجمه، وتجعله مسموعًا ومرئيًا ومحسوسًا؛ تجعله كائنًا حيًا ملموسًا يتقافز كالطفل حول من تحبهم، ويقف كجدار حماية لهم في أحلك أوقاتهم، فنحن في النهاية بشر، نطمئن أكثر لما يمكننا رؤيته.
الحب يتحدث، هل تُنصت؟
لكل إنسان مفتاحه؛ الأشياء والكلمات التي يُفضلها، والمشاعر التي يرغب دائمًا بالوجود فيها. وعلى الأغلب نحن نُفضل رفقة صديقٍ بعينه بسبب مدى فهمه لطبيعتنا الداخلية، ومدى توافقه مع (مفاتيحنا) تلك. ولذلك يبدو كتاب لغات الحب الخمس واقعيًا لمن يقرؤه؛ فكلنا لدينا تلك الشيفرة السرية= المفتاح الشفاف، الذي نميل لمن يتمكن من رؤيته والتقاطه، وفتح قلوبنا بواسطته.
بعضنا يكتب الشعر في الحبيب، وبعضنا يستعين بما كتبه الشعراء في القصائد وكلمات الأغاني لتمرير مشاعره، بينما يميل البعض لاصطحاب من يحبهم للسينما أو لحفل موسيقا، البعض يهدي من يحبهم رواية، و البعض يُقدم المساعدة في بحث التخرج، والبعض يُمرر لمن يحبه شيء طالما رغب فيه عبر هدية بلا مناسبة، بينما يعجز البعض عن التعبير، وتبقى محبته حبيسة صدره، وينسى أن الحب لغة، كما يسرد كتاب لغات الحب الخمس غاري تشابمان.
يُصنف تشابمان تعبيرنا عن الحب، وتلّقينا له، من خلال خمسة طرق، وكل طريقة إنما هي احتياج لدينا كبشر، وإن اختلفت نسبة حاجتنا إليها تبعًا لاختلاف أمزجتنا، تلك الطرق/ الحاجات هي: التعبيرات والكلمات المؤكِدة لمدى حبك، ومنح الآخر من وقتك مع الحرص على جعله وقتًا ممتعًا، والتلامس؛ ، والقيام بخدمة أو فعلٍ من أجله، ومنحه الهدايا.
ولذلك جاءت كلمات التأكيد كأول مفتاحٍ للقلب، لا شيء أجمل من أن يؤكَّد لنا مرارًا وتكرارًا أننا محبوبون، وجميلون، ورائعون، وشخصيًا لا أستغرب ماجدة الرومي عندما كانت سعيدة بمجرد كلمات وهي تقول: “وأعود لطاولتي، لا شيء معي إلا كلمات”، الكلمة مفتاح يفتح القلوب، وقد يُغلقها للأبد، لذلك كانت كلمات التأكيد هي أول حاجات الإنسان، لأنها تعبير الحب الأوضح الذي لا لبس فيه، والأمان الممنوح عبرها لا يُضاهى بالنسبة للكثيرين.
لكل لغة ترجمة، وكل الحب مقبول.
نعيش في عصرٍ سريع، ويستهلكنا بدرجة ننسى معها أهمية أن نُعبر ببساطة عن محبتنا بكلمات مثل (أحبك، أنت غالٍ عندي، وجودك بالدنيا)؛ الحب لغة والتعبير عنه أوضح لغة، وأكثرها قدرة على منح الطمأنينة والأمان والتأكيد على مكانتنا. ثم أننا مع صخب أيامنا نغفل عن احتياجنا لقضاء وقت ممتع مع من نحبهم، وننسى حاجتهم بتواجدنا حولهم، ولذلك ربما نعتبر كلمة (أفضى لك) بالعامية هي أجمل تعبير عن الحب، إن جاءت إجابة سؤال: هل لديك وقت؟
فنحن نُحب من يُشعرنا أننا استثناء، من نتأكد أنه قد يترك كل انشغالاته من أجلنا في حال احتجنا وجوده، ومن يحرص على الاستثمار في علاقته بنا بمنحنا من وقته، ومنح نفسه إجازة من انشغالاته؛ فيختار أن يقضيها معنا، وهذه لغة حب تُشبع فينا حاجة الاستثناء، وبشكلٍ عميق.
أما اللمس، ويدك الممدودة بتلقائية تجاه ما ومن تحبه هي أكثر لغات الحب دفئًا وعفوية وحميمية، لذلك لا نلمس إلا من نوقن أنه لن يبعد أيادينا أبدًا عنه، فلغة اللمس تحتاج الأمان كي تعبر عن نفسها، لذلك هذه اللغة هي الأعمق بين لغات الحب.
في حين أن بعضنا يتحدث بلغة (أفعلها من أجلك) تعبيرًا عن حبه، مثل صديقك الذي سجّل محاضرة وأرسلها لك عندما كنت متوعكًا وتغيبت عن الحضور، أو أخيك الأكبر وهو يُمرر لك كوب قهوة شعرت أنت بحاجته، لكنك لانشغالك؛ لم تستطع القيام من مكانك لتحضيره، هذه المواقف الصغيرة الصامتة تعبير صاخب عن الرعاية؛ فنحن نقرأ احتياجك، ونهتم به من أجلك.
ونفس الفكرة تنطبق على الهدايا؛ فالهدية دومًا تعبير عن الاهتمام، وهي لغة حب واضحة إن جاءت بلا مناسبة؛ كأن صاحبها يقول لك: تخيلتك فيها فاشتريتها من أجلك، أو جمعت مشاعري وأودعتها في هدية (صنعتها) بيدي لخاطرك أنت.
وقد أصبحت لدينا (معظم) لغات الحب التي يُفضلها أغلب البشر، هل ترى أننا اليوم نُعبر كفاية؟
لا وسيلة، مهما كانت متطورة، تُغني عنك.
عصرنا هو عصر القصة بلا منازع؛ كلنا يبحث عن قصته ليُشاركها، فيُلهم بها دوائره الإنسانية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهكذا وجد البعض قصته المنشودة في علاقاته الشخصية بأصدقاءه وعائلته وحتى شريك حياته، ولهذا أصبحنا نرى الكثير من تفاصيل العلاقات بين الأصدقاء، أو العائلة، أو الأزواج حتى متاحة ومنشورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ صورًا مُلتقطة للحظات تبدو شيقة ورائعة، هذا جميل، ولا أتشكك في حقيقته، لكني أخشى مدى هشاشته.
ففي مقالة قديمة قرأتها في موقع الهاف بوست، يرى الكاتب بأن النشر الزائد عن المعدل الطبيعي، للصور الشخصية مع شركاء الحياة، وتفاصيل العلاقات يُعد قناعًا لانعدام الأمان في العلاقة؛ فالباحثين أثبتوا أن الشركاء الذين لديهم نمط ارتباط قلق، ويحتاجون إلى مزيد من الطمأنينة بشأن علاقتهم، هم من يشعرون برغبة عالية في الظهور مع شركاءهم، كنوع من التأكيد على متانة العلاقة لأنفسهم، بجعل هذه المتانة مرئية لأكبر قدر ممكن من الناس.
والسؤال الذي أتخيله مناسب هو: هل يوازي تلك التفاصيل المتاحة للجميع، اهتمامًا حقيقيًا بصديقك، أو والدك، أو زوجتك؟
جميل أن تقول للعالم كله أنك تحب هذا الإنسان، والأجمل أن تشعر أنت بهذا الحب فعلًا، وتجعل الطرف الآخر يشعر، حقيقةً، بأمان حبك له، بأفعال حقيقية ناضجة وبعيدة عن صخب مواقع التواصل الاجتماعي، ونشر خصوصيات العلاقة أمام الأعين المُتلصصة التي لن تزيد مشاهداتها علاقاتك قوة.
ما يجعلك مُحبًا ومؤثرًا هو أن تقول لمن تحبه أنك تحبه، أو أن تُخصص من أجله وقتًا تُشعره فيه بمدى اهتمامك وقربك، وأن تكون أنت راغبًا بالفعل في قربه وتوطيد علاقتك به، أو أن تشتري له هدية بمجرد مروره في خاطرك، أو أن تضع شالًا على كتفه دون أن يطلب في ليلة باردة؛ فلا شيء يُغني عنك أنت حاضرًا بالفعل في أوقاتهم.
عبر بنفسك، من أجلك، من أجلهم.
مواقع التواصل الاجتماعي جعلتنا متصلين دائمًا، لدرجة أننا نشعر أن رسالة لمن نحبهم أحيانًا قد تكون كافية للتعبير عن هذا الحب، لا أقول بأن علينا تحمل (مشقةٍ) ما، فليس من المفترض أن يشعر المحب حقًا بالمشقة إن هو مد خيوط الاتصال بينه وبين من يحبهم وقرر الحضور الحقيقي في أيامهم، لأن قربه الفعلي منهم وتعبيره عن الحب لهم حاجة في نفسه، تمامًا كحاجة من نحبهم لكلمات التأكيد وأفعال المحبة. لذلك فإن العودة إلى التعبير الإنساني (التقليدي والقديم) هو أفضل وسيلة لتبقى بالفعل متصلًا بمن تحبهم، فالحضور الحقيقي الملموس هو ما يجعلك حقيقة بالقرب دائمًا.
نحن أيضًا نحتاج للتعبير عن مشاعرنا، نحتاج إلى قول أحبك لشخصٍ ما، نحتاج إلى الإنشغال بآخرٍ سوانا؛ ننشغل بإهدائه ومفاجأته، أو ننشغل بمساعدته؛ ننشغل به عنا وعنه، نحتاج إلى الإنغماس في تفاصيل إنسان آخر سوانا، نحتاج لصب محبتنا وإهتمامنا ورعايتنا صبًا على من نحبهم، ونطمئن أن محبتنا تلك مقبولة ومرغوبة ومحبوبة وعزيزة على قلوبهم، وأن لغتنا مفهومة لديهم.
علاقتنا بالآخرين خيار، وتعميقها وجعلها متينة وراسخة يحتاج منا الاجتهاد، وبذل النفس بحب وسعادة، ولا تخشى ظلمًا أو جورا؛ فمردود الحب دومًا حب، (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)