جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

لا تقولي أنك خائفة..
16 حزيران
النفس والعاطفة

لا تقولي أنك خائفة..

16 حزيران

|

النفس والعاطفة

باب ما جاء في مواجهة المخاوف وحملها في حقيبة أنيقة. 

أهلاً مجدداً.. لا أعلم إن كان من المناسب الإحتفاء بأول مقالة هنا في مطلع المقالة الثانية، أبدو متحمسة للغاية للعودة للكتابة معكم جميعاً. إن شعور المقالة الأولى جعلني آتراقص فرحاً، لأني وجدت الكثير من العاديين معي ومثلي، يقلقون من الحيا، ويواجهون البقاء، و يستثقلون الحديث عن أنفسهم أو يضحكون في زاوية غرفهم على تنميق الإجابة.. 

ادخلوا هذه المقالة اليوم مع تفكير مسبق.. 

فكروا ملياً.. 

المهم، ننتقل لواقع أن اليوم سنجتمع نحن الخائفون، في مكان واحدة نقرأ ثم نتشارك الخوف، والمخاوف.

الآن قبل أن تقرأ.. اغمض عينيك لوهلة، استحضر أكبر مخاوفك، واقرأ، أعلم أن الأمر سيكون مزعجاً وخانقاً، لكني حقاً أحاول أن أكون قريبة منكم في كل فكرة أكتبها وأشاركها.. 

صبركم علي.. 

الخوف، هل تعرفون أحداً لا يخاف؟ هل تظنون أن الخوف والشجاعة كلمتان متقابلتان في قاموس المتضادات أم أنهما ذات الكلمة لكن من زوايا مختلفة… هل ترتدي الكلمات الأردية بشكل مختلف لتهدينا معنى مختلفاً؟ أم أننا ننظر للخوف من زاوية الشجاعة فحسب لننسى أن الخوف يحمينا في بعض الأحيان؟ 

قبل أن أكتب بدأت بالبحث في محركات البحث عن معنى أو تعريف الخوف، يعرف قاموس أكسفورد الخوف على أنه “شُعورٌ بالقَلَق يَعْتري المَرْء حِيالَ خَطَر وتَهْديد أو عند فِكرة خَطَر وتوقُّع حُلول مَكْروه، رُعب، وَجَف القلب.” ويبدو أنهم يعرفونه أيضاً كسلوك مميز انفعالي مصاحباً بردود فعل انفعالية غير سارة. لكن الواقع أن كلمة الخوف هي رد الفعل الطبيعي الذي دفع الإنسان الأول لحماية نفسه وخلق بيئة تحميه وابتكار أساليب وآليات للدفاع والتطوير من شخصه ليصل لمستوى متحسن من إدارة الذات والمشاعر وأي انفعال مرتبط بما يسمى الخوف. في ظني أن أدوار الخوف تغيرت وتطورت على مر التاريخ، فقد كان الخوف هو الأداة المحورية التي ساعدت الإنسان القديم على مواجهة المفترسات والحياة البرية القاسية وظروف المعيشة اللاحضارية بالنسبة لنا. 

إن مواجهة الخوف هي مواجهة الحياة التي نخبئها بين ثنايا عقلنا، هي تلك التجارب العالقة بأجسادنا وعواطفنا، وحتى بالأماكن التي نعبر خلالها وتعبر فينا. يعتريني الخوف من الكثير من الأمور، وقد أكون شجاعة لمجرد الاعتراف بذلك، وأعتقد أننا جميعاً شجعان نفسياً في خطوة أولى حين نعترف بمخاوفنا بصوت عالٍ، أو نشاركها كحقيقة واقعة مع أقراننا في حديث مفتوح. تمتلئ الحياة بالخوف، بل قد نعيش عدة حيوات من خلال تجاربنا الخائفة العالقة بين أصابعنا المشنجة ورموش أعيننا التي ترفرف أو تحملق في مصدر الخوف.. 

علامات الخوف.. تعارف مع ضيف ثقيل

لا أريد أن أطيل في المقدمة، كل ما أريده هو التحدث اليوم، وخلق مساحة يتشاركها معي جميع الخائفين الشجعان. هل تعرفون فكرة العلامات والظواهر البشرية؟ تلك التصرفات والسلوكيات التي تصنف كعلامات لحدوث تصرف أو تنبؤ بحدوث ردة فعل؟ أظن أن الخوف هي أحد المشاعر التي تمتلك العديد من الظواهر والسلوكيات والعلامات التي تبلغنا بقدومه في ثوانٍ قصيرة جداً. إن علامات الخوف والسلوك المصاحب له هو جلوسك بجانب صديق تكاد لا تطيقه طوال سنين دراستك، إلا أنكم لسبب ما لا تفترقان أبداً، يظن  المدرس أنه صديقك فيسألك عنه حين يتغيب، ويفرقون بينكما كنوع من العقوبة، ويظن جميع زملاء الصف أنه صديق طفولتك وابن حارتك.. إن الخوف شبيه بهذا الصديق الغريب الذي يترك فينا انطباعات مثيرة للجدل مع الناس والبيئة من حولنا، فمهما سعينا لإنكاره يراه الناس مرتبطاً، واضحاً وظاهراً..  

وكصديق قديم يألف رفيقه الثقيل، فأول علامات الخوف لدي هي شعوري بأن قلبي يرفرف بتخبط في داخلي وأفقد السيطرة داخلي وأبدأ بمحاولة إخراج صوتي ثم التشنج ثم الشعور بباقي أطرافي متصلبة داخلياً، أفقد السيطرة على طرق تساعد في تهدئتي، وأسعى كل جهدي فقط لإنقاذ نفسي من المأزق لأكمل العيش.. الآلية الوحيدة التي أجيدها في بعض الأحيان هي التخبط أو التجمد في مكاني بطريقة تشبه جذع شجرة يابس يشعر بالأسى على عقله الساذج و المرتاع. بعد محاولة تخطي الخوف، تبدأ عيناي بإفراز مخزون من الدموع والشهقات التي اختلجت في داخلي لتصنع صورة ميلو درامية منعكسة عني لنفسي. 

من الطريف أن بداية هذه المقالة كانت ستكون تفاؤلية بعض الشيء وتتحدث عن مواجهة الخوف وحقيقة بدئي بأخذ صفوف السباحة.. إلا أن المنعطفات الحادة مع شعوري الداخلي بالخوف جعلتها حادة وقلقة ومستعجلة ومستغرقة لوقت طويل جعلني أستسلم لذاتي وأتوقف عن التسويف وأكتب الآن بتاريخ الخامس من حزيران، حيث تشكلت لوهلة بؤرة الخوف واسترجاع الذكريات.. 

علاقة العنوان، الخوف والحقيبة الأنيقة.. 

أعتقد أن كلاً منا يجب أن يمتلك حقيبة أنيقة وفاخرة يحمل فيها مخاوفه ليضفي عليها طابعاً من الألقة التي تكون شخصيته، فخوفك لم يحضر عبثاً، بل هو انعكاس لواقع عشته سابقاً وعشت رغماً منه، أو محاولة للنجاة من الاختناق الحياتي، أو واقع مختبئ لا يود مواجهتك.. 

حقيبتك الأنيقة، أو أي قطعة فاخرة تملكها على سبيل المثال ساعة.. هي القطعة التي تعبر عن برستيجك أو ستايلك في مناسبة معينة، الأمر سيان مع خوفك. فخوفك الظاهر والذي يرافقك في بعض المناسبات، هو توقيعك الشخصي عن حدث عشته ولا تزال تتماسك بالرغم من مزاولته لمهنة تخويفك ودعوتك لمواجهته. هو شعور يصنع لك الشخصية التي تتشكل فيها، ومواجهتك إياه هو مواجهة لذاتك ولأشباحك التي تطبطب عليها لتبقى نائمة خشية منك على مصارحتها بالواقع.. 

عنوان فرعي: المياه، الموت، صراع البقاء.. 

حقيبتي الأنيقة تحمل البحر 

حقيبتي يا أصحاب تحمل المياه، أجل إنها تلك الظاهرة الطبيعية والنعمة التي وهبها لنا الله على سطح هذا الكوكب لنستمر بالعيش، ورغم أن الماء سر الحياة، فهو سر مخاوف كثيرة.. سنتحدث عن الحكاية باختصار، لكي لا أبدأ بالتعبير عن الحدث بميلودرامية الطفل الاداخلي خاصتي، لكن لأشارككم خلفية الحكاية.. 

في طفولتي تعرضت لموقف من طفلة تكبرني بعدة أعوام، إحدى القريبات،، أذكر تلك المزرعة أو قطعة الأرض المزروعة، أذكر ما كانت ترتديه، أذكر شعرها المتجول حول وجهها الأسمر، وأذكر عدم حبها لي جيداً… كيف أعرف؟ إن للأطفال حاسة يستشعرون بها أقرانهم الذين يكرهونهم. في ذلك العام في تلك الأرض في تلك القرى الكردية الصغيرة في شمال شرقي سورية، كنت كأي طفلة داخلة بركة مياه تسقي تلك الأرض مع تلك القرينة التي لا تطيقني.. أنا وجسدي الصغير وشعري الخرنوبي وملابسي البيضاء.. في بركة مياه باردة، حيث حاول والداي وأقاربهما خلق ذكرى طيبة لي مع المياه. كانت ذكرى سعيدة لوهلة، أو طيفاً لحدث بشع قادم، لحظة حاولت فيها طفلة خنق وإغراق طفلة أخرى تحت المياه.. لوهلة صارعت سر الحياة، وتلك البقعة التي خلقت تلك الجنة الخضراء، طفلة تغرق طفلة أخرى.. لم أجد السباحة يوماً، لم أعلم ما الأسس التي يجب علي تطبيقها، لم يكن لدي العلم الكافي لأنقذ نفسي. كل ما كنت أعرفه أني لم أعش حلمي بأن أكون مثل فتيات سبيس تون وأني سأموت قبل أن أصبح رسامة. 

تلك كانت اللحظة الفاصلة التي خلقت رعباً أبدياً لي من المياه، فحيث تتواجد المياه، تتواجد حقيبتي الشاسعة لحمل خوفي، أحمل أسرار الحياة بأشكالها من برك وبحار ومحيطات ومسابح وأنهار بجمالها الآخاذ كمخاوف منتقلة وسائرة.. فحقيبة مخاوفي عابرة سبيل في حياتي لكنها تعبر محطات عمري كثيراً.. 

بدأ ذلك الخوف من سن صغيرة وتفاقم حين حاول أخوالي مساعدتي في مواجهة خوفي من خلال رميي في البحر في مدينة ينبع كنوع من المساهمة بمثال: “ارمي نفسك في وسط الخطر وواجهه” إلا أن ما حصل تفاقم لفوبيا هائلة من مجرد النظر للمياه.. ثم تحول لنوع من التوجس، ثم تحول لرؤية مصير موتي في الماء.. 

فحين يسألني أحدهم كيف تتخيلين شكل موتك؟ 

أقول بهدوء أني قد أختار المحيط، لأني أجده جميلاً غريباً غامضاً وشاسعاً يحملني ويحمل غيري في قلبه ويبتلع مني الحياة رغم أن الفيزياء تؤكد أن مقاومتي له هو ما سيودي بحياتي، إلا أنه مستعد لمواجهتك ليخلق منك صورة جثة جميلة طافية وهادئة فوق السطح تعوم، أسفلك حياة غريبة وعوالم عميقة، وفوقك سماء شاسعة وما بين يديك مجهول واسع من الاحتمالات التي كان من الممكن أن تساعدك. 

ونظراً لتفاقم حالتي النفسية وأحد مشاكل الإلتواء التي أعانيها في قدمي اليمنى وتزايد معدل القلق والتوتر لدي، قررت أن أخطو خارج دائرتي وأن أخلق لنفسي فعالية “تحدي” جديد ينطوي على مواجهة أحد مشاكلي الكبرى في الحياة وهي السباحة.. 

تأريخ قصير، سيرة محاولة تغرق

لن أكذب على نفسي إحقاق لحق مدربتي، وليس لنفسي، فقد تطورت من ناحية النزول للماء، فبداية كنت أخشى من أن أمد قدمي نحو المياه، لا أثق بالماء لا أثق بالناس من حولي في الماء، وأخشى شعور الغدر دوماً. ويبدو الأمر لمن يقرأ الآن درامياً، إلا أنه واقع حقيقي للغاية، فالمياه هادئة وذات مظهر متناسق، إلا أنه بمجرد خطو قدمك فيها تصبح كمادة تحاول رفعك، وأعلم أن الأمر عائد لقوانين الجاذبية ومقاومة الجيد وكتلة الجسم وسوائله مقابل سوائل الماء، إلا أن عقلي يترجمها كحركة غدر من خلف ظهري حين تحاول المياه إعطائي لحظة استرخاء.. لذا هنا تأريخ قصير لمحاولتي على مدى الأربع حصص التي عشتها كتأريخ شخصي مع خوفي. 

اليوم الأول: 

لن أكتب تواريخ يومية، لكن سأكتب تواريخ شعورية.. في اليوم الأول، لم أعلم كيف أرتدي أي شيء يخص الزي، لأنه بدى لي كشيء إضافي من عالم آخر لم أزره سابقاً.. كان الأمر أشبه بارتداء تعويذة تشجعك على الإيمان بأنك قادر على التخطي، ثم إقناع نفسك بالخطوة القادمة التي ستخلق فرصة النجاة من الخوف والارتياع اللذان يرافقانك.. 

في أول مرة نظرت للماء، ورغم أني كنت سأسبح في الجهة المخصصة للأطفال، رددت كل الأدعية.. كلها، هل تعلمون مشاعر المغص قبل الامتحانات النهائية وكتابة دعاء “اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً”، هذا ما كتبته على قلبي، كنوع من الطمأنة تنفست وقلت، لا باس يا القلب الشجاع، نزلت مع حديث المدربة، تشجعت بعض الشيئ، هرعت أول ملامسة المشي في الماء، ارتعت أكثر حين حاولت التنفس مع الماء، حاولت مدربتي حملي على الهدوء ومراقبة تشكيل الفقاعات الذي يتشكل في الماء مع تنفسها لأحفظ الوتيرة.. لمن يعرفني لا يعرفني، أعاني حساسية تنفسية، وفي كثير من المرات لا أجيد الحفاظ على أنفاسي لوقت طويل، لذا كل تلك الرياضات التي تهتم بوتيرة التنفس وتؤثر عليه تؤلمني للغاية.. 

في نهاية محاولات اليوم الزول، كنت سعيدة بالهدوء الذي تملكني كوني استطعت أن أنزل للماء وأحاول التأقلم عليه.. 

كانت التجربة أشبه بالانتقال لعالم آخر تكتشف فيه بُعداً جديداً من الحركة والتنفس والانسياب. 

ملخص اليوم الأول: 

  • لا بأس، لديك قلب شجاع 
  • المياه بُعد آخر لحياتنا 
  • الخوف حقيقة 
  • العقل الخائف عبثي 

اليوم الثاني: 

كنت أكثر حماساً في اليوم الثاني، ظننت لوهلة أني سأجيد محاولة إنزال نفسي بشكل صحيح، إلا أن مدربتي قررت أنه ربما حان الوقت لأحاول النزول لمستوى أعمق، معلومة جانبية: المستوى الأعمق هو حيث لا تزال تلامس قدماي المياه. إلا أن فكرة مستوى المياه البالغ متراً وبضع سنتيمترات مثير للخوف.. ماذا لو انزلقت؟ كيف سأنقذ نفسي إن خطفتني المياه؟ قد يستسلم جسدي وأبقى هناك.. كل هذه الأسئلة تخطر لي في غضون ثوانٍ قليلة. 

إن معضلتي الأكبر هي أني أستطيع النظر للأسفل بكل هدوء، إلى أن أصل للحظة أشعر فيها أن شيئاً ما يسقط على جسدي ويحول دون قدرتي على الارتفاع. 

يتوقف عقلي عن الاستيعاب وتنهار منظومتي التنفسية، ولذلك أكون متشنجة نظراً للقلق من الخطوة التالية التي قد تغدر بي أو تودي بقدراتي. 

من خلال متابعة نفسي، علمت أن ما يبدو لي خوفاً ليس مجرد وهم، لكنها صورة سينمائية مخلوقة بامتياز داخل زوايا العقل الذي يجيد الإخراج بشكل مثالي. 

يثير المسبح قلقي، وفرحي، أشبه الأطفال حين أستطيع إنجاز تصرف صحيح، وتحاول مدربتي جاهدة لتساعدني، تطبطب علي وتحدثني عن مواضيع عامة.. 

في اليوم الثاني كنت متوترة لسبب ما لا أستطيع تذكره، أظن أنها كانت أحد مشاكل الغضب المتعلقة بشكل خاص بالعمل، رفض جسدي الاسترخاء، رفض عقلي مساعدتي على تقبل أن هذا السطح يشكل منطقة استرخاء وأن علي وضع المزيد من الثقة فيه. 

في نهاية اليوم استطعت دفع نفسي والسباحة في المنطقة الصغيرة جداً، رغم انقطاع أنفاسي ومحاولاتي الفاشلة التي تخللت الحصة، إلا أني كنت هناك، أحاول مواجهة خوفي. كنت أشبه بطالب يتلعثم أمام إدارة مدرسته الظالمة، أو طفل يخشى قول الحقيقة. 

لكن في كل مرة خرجت من المسبح شعرت بهدوء يسري داخلي لمعرفتي أني حاولت الصمود ولم أقع. كان الحصين في عقلي لوهلة مساهماً في خلق تصرف شبه رزين، لأفند حقيقة خوفي. 

خطوة أخرى في مواجهة الفوبيا.

الفائدة: 

الفكرة من مواجهة الخوف ليست مواجهة الخوف، لكنها لحمل الذات على تصنيف الحقيقة من الزيف.. هل حقاً نخاف ما يواجهنا، أم زنه تراكم لمشاعر معينة خلقت حالة مزيفة لقلقنا نحو الأشياء من حولنا. 

اليوم الثالث: 

أعتقد أن قلقي الأكبر من المياه هو واقع اختلافها، هي ليست أرضاً ولا فكرة طافية، هي عالم قابع في المنتصف، لها عمق قد يُعرف أو يُجهل، وتمتلك المياه كل تلك الصفات الوحشية والجميلة، تبتلعك وترميك، تخلق منك نفساً جديدة وتحييك، أو تغرقك بهدوء برفقة النسيم.. 

إن الماء أشبه بكوكب مصغر من الأفكار الطافية والحضارات الغارقة في عالمنا، لا يسكن البشر المياه، بل هي تسكن داخلهم كسبب من أسباب البقاء والنجاة وكأسلوب حياة، ثم ما تلبث أن تعبر المياه بنا، أو تستقبلنا للاسترخاء، أو تصنع من نفسها طريقاً يصلا لاقرات ويعبر الحضارات. أجد زن المياه عالم يصنع منا شخصية تستطيع الاستماع لأشياء فانية وراحلة.. لذا في كل مرة أستعد لأصنع بعض الفقاعات التنفسية، أفكر بوجوه أشخاص فقدتهم في حياتي، أو لم أعد أتحدث معهم.. هل هناك سبب؟ لا إلا زن خوفي يربطني بالمفقودين والمفقودات من حياتي ليصنع لي آلية تربط خوفي بالفقد. 

في اليوم الثالث كنت عازمة على أن أقسو بعض الشيء على نفسي، ورغم محاولتي التي تبوء بالفشل، وقلقي المستعر من نفسه في كل مرة، أجدني أقترب خطوة واحدة نحو حقيقة الهدوء، وخلق فقاعة مسترخية. أحاول أن أصنع مداراً من الاسترخاء لكن في الحقيقة أعيش في خواء عقلي لحظة نزولي للماء ويتعوض الخواء في عقلي بكل ما عرفته من معاني الخوف في حياتي.. 

في كل مرة تلمس يدي الماء أحاول أن أسمح لنفسي بالتعرف على جسدية الماء، وحقيقة وجوده، تلمسه كإحساس. يشعرني الماء بأني اخترق خصوصية نواحٍ مقدسة ومجهولة غادرت منذ آلاف السنين. 

في اليوم لثالث، حاولت أن أبدأ بأحد أهم الأساسيات، ضربات الرجلين. 

تثير هذه الحركة كل الألم الذي أعرفه، فهي تصنع آلية من التوتر نظراً لكمية التركيز الموضوعة في مشط القدم، بالإضافة لمحاولة الإصغاء والتركيز لتتأكد أنك تتنفس وتضرب برجلك سطح الماء بدون مبالغة أو ضعف. أعلم أني أنهيت ذلك اليوم بمحاولة استيعاب جديدة. إن المياه تساعدك على التعرف على نقاط مختلفة من جسدك أنت لم تعرفها مسبقاً.. إن المياه هي أسلوب يطفو فوق جميع عقلك ليخبرك بأشياء جديدة لا تعرفها أبداً. 

اليوم الرابع: 

أستطيع تسميته يوم التراجع. 

هل تعلمون عن تلك النقطة، تلك الآفة التي ترجعك للوراء، أو لحظة التقاء الصدمات متتابعة كلعبة الدومينو؟ 

كان هذا عنوان يومي الرابع. حاولت حقاً أن أمشي في أرض المسبح، لكن قدماي كانتا تجرانني نحو هوة سحيقة من التوتر والهلع، لم أستطع أن ألحق بذاتي، كل جزء مني في مكان آخر.. كل قطعة مني تغني على هواها، وبينما حاولت اجتياز جزء لا بأس به، في لحظة واحد، قررت إحدى قدماي فقد قدرتها على التوازن، وقرر عقلي مرافقتها ليزيد من خوفي، لأتزحلق وأفقد كل ما بنيته من شجاعة مدعية.. 

لأول مرة أشعر بنفسي بائسة، هل تعلمون معنى أن يجد الإنسان نفسه بين بؤسه وخوفه، أن يفقد شرف المحاولة، أن يشعر بنفسه يائساً من التجربة؟ لوهلة قررت في داخلي أن أتوقف عن السباحة، لوهلة شعرت أني فقدت كل ما بنيته من معرفة وقدرة، لوهلة فقدت كل كلمات الهدوء.. 

في لحظة حاولت المدربة حثي على رمي خوفي والمضي قدماً مرة أخرى ولم أستطع، عجزت عن الحركة، عجزت عن تنظيم تنفسي، عجزت عن امتلاك زمام السيطرة مرة أخرى لأني كنت خائفة. 

في تلك اللحظة كنت أفكر في رواية لا تقولي أنك خائفة، ورغم أني لما أقرأها بعد، إلا أن عنوانها كان يشبه ما يخلق من حولي من حواجز، كان كل شيء يأمرني بعدم الخوف، إلا أن عقلي قرر أن يضع أمامي حقيبة مخاوفي الأنيقة والنيقة، كانت محاولات مواجهتي تؤول بس للغضب والسخط.. كنت غاضبة، حزينة، محرجة، قلقة، ومتوترة، كانت تمر داخلي انعكاسات شعورية كإعصار يرافق الخوف والجزع، كنت أردد اسم الله وأسأل المناجاة والرحمة في مسبح لا يتجاوز عمقه المتر.. وشعرت بسخط أكبر وأشد. 

في لحظات محاولاتي على استرجاع وتيرة التنفس والقدرة على استعادة حركة قدمي بهدوء، وقعت في نقطة مظلمة.. 

الخوف: 

هو تلك الآفة التي تعبر أجسادنا، لتخلق لنا محاولات شرسة إما للمواجهة أول الوقوع فوق صخور كلسية حادة.. الخوف هو نداء النجاة، وآلية الزيف التي تحمي عقولنا لتمنعنا من المواجهة.. 

الخوف.. هو صورتنا الزخرى التي نقلق من مواجهتها خوفاً من العدمية. 

لوهلة تحول جسدي لوعاء لاستيعاب الخوف والجزع، لوهلة شعرت بنفسي أمتص كل الخوف الذي مر على سطح ذلك المسبح.. لوهلة شعرت بأني أمشي مواجهة مصيراً لا أساويه في مقدار الشراسة.. 

لوهلة عرفت 

أني صنعت لنفسي الخوف وخلقت وحشاً داخلي يفترسني ويجتزني اجتزازاً .. 

لا يزال الخوف نور آخر النفق. 

أمتلك مختلف أنواع المخاوف، أخاف الأفاعي، أخاف من منظرها من شكلها من صورها حتى من بعض قطع روبرتو كفالي المحتوية على الأفاعي.. أخاف أفلام الرعب والكثير والكثير..  لكن في متابعة مختصرة لنفسي علمت أن ما يخلق الخوف، يخلق لنا صورة رومانسية عن ما سنجده بعد تخطيه، أي محاولة العيش الحذر أو العيش وفق المغامرة، كلاهما وجه رومانسي لصورة الخوف لدينا، شخص يخشى فيظن أنه يحمي نفسه، وآخر يواجه فيجد نفسه محاطاً بالموقف شاعراً بالشجاعة. رغم ذلك لا أزال أرى أن كلا الفكرتين تعرضان الخوف في إطار صورتنا الشخصية.. 

قلقي من السباحة ليس قلقاً قابعاً في نفسي كشخص يكره التجربة، لكنه نوع من المخاوف المكتسبة بالتجربة، وأظن أن مخاوفنا المكتسبة بالتجربة هي أقساها، لأنها نظرية وعملية، فهي تكبر معنا وتصنع صورة مُتجبرة من نفسها لتصبح هاجساً للمواقف، ومانعاً للاستسلام للحماس، وأمراً يقلقك لا محال. لكن المشكلة الأكبر التي أواجهها أمام المخاوف هي حقيقة رغبتي بتخطيها.. لأني أنظر لنفسي بعد كل حصة تدريبية وأبحث عن أمر أفرح بخصوصه، وأتساءل إن كنت في يوم ما سأواجه مصيراً مشابهاً لكثيرين غرقوا في البحار لعدم مقدرتهم على السباحة.. 

قد يضحك الكثير حتى من المقربين على هذه الفكرة، إلا أنه في المرة الأولى منذ سنوات تمنيت لو أجيد السباحة، كانت مع بدء موجات اللاجئين المغادرين من البحر.. أثار الموضوع قلقي جداً، شعرت أنها مهارة يجب علي اتقانها من باب الحذر، ولا أعلم لما شعرت بأن في كل قارب من تلك القوارب الرثة شخص يشبهني، شخص يحبه الآخرون، ويحب الآخرين، يبتسم ويخشى مواجهة المياه ولكنه اضطر على ذلك، لا أعلم لما بدأت أفكر بكل تلك الحشود في القوارب ومدى قدرتهم على السباحة حقاً.. 

لأول مرة أثارت الفكرة سخطي.. 

لاحقاً اكتشفت أن أسوأ كوابيسي نابعة من مخاوفي، فحالما أكون نائمة فإن نوعية كوابيسي دوماً تحوي أفاعي غريبة، أو مسابح عميقة أغرق فيها.. أو حافة جبل أبقى عالقة عندها. 

إن خوفنا وقلقنا هو ما يصنع صورنا المنعكسة التي تحوي أكبر مشاكلنا، تلك المواقف التي نصنع فيها مرآة لأنفسنا، وقرارات تشبهنا.. 

أعني كم فرصة رفضتم من قبل خوفاً وخشية؟ كم من المتعة تركتم، كمية العلاقات التي قررنا عدم الخوض فيها، تجارب الطعام خوفا من عدم الإعجاب، الدراسة قلقاً من الفشل، العمل في مجال مختلف خوفاً من السقوط، عدم بدء عمل خاص خوفاً من الخسارة… والكثير  الكثير.. 

رغم خوفي التام من تجربتي التي شاركتها، وبالرغم من توتري في كل مرة تنزل فيها قدمي للمسبح، أشعر بالامتنان لحقيقة المحاولة، لفكرة الوقت الذي أقضيه وقدماي تشعران بعالم مختلف، للأصوات التي أسمعها، لكل نوبات الهلع التي أتخطاها لتجعلني أؤمن بذاتي أكثر. 

شكراً للخوف وفكرة تخطي الخوف.. 

في النهاية، شقت هذه المقالة أنفاسي، كانت لحظات الخوف متكررة في داخلي، تشبه لحد كبير إغراق نفسي بنفسي في أسوأ الأفكار، ورغم خشيتي وتوتري من تأخرها، لا أزال أؤمن أنها ستساعد أحداً ما هناك، ينتظر أحدهم ليخبره أنه لا بأس بأن تخاف، وتفشل في محاولة المواجهة، لا يجب أن نتخطى خوفنا من أول محاولة.. قد يستغرق الأمر وقتاً، في النهاية هي تصرف نابع من شعورنا بالدفاع أنفسنا. 

فقط جرب أن تدافع عن نفسك بالمواجهة. 

النهاية.. من مكتبي البديع في الطابق الثالث، بينما أراجع حساباتي في العودة لدروس السباحة، رغم أني لا أحمل حقيبة أنيقة لأضع فيها خوفي، بل حقيبة كبييييرة للعمل تحوي نصف حياتي داخلها.

3
0
اشتراك
تنبيه
guest
1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

محاولات تحسين سرمدية
1 حزيران

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق
نحن أبناء الجسور
25 أيار

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 7 دقائق
الإلتزام يصنع الأبطال
19 أيار

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 6 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً