جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

الأصدقاء مصاصو الطاقة
23 كانون الثاني
العلاقات

الأصدقاء مصاصو الطاقة

23 كانون الثاني

|

العلاقات
بدعم من

منذ خمس سنوات تعرفت بالمصادفة على صديقة، تطورت علاقتي بها من خلال بيئة العمل والأحاديث الجانبية عن اهتماماتنا المشتركة؛ في البداية كانت تبدو لي ممتعة ومرحة وذكية ومتكلمة، لكن بعد فترة ومن خلال بعض المواقف أصبحت أشعر بالثقل الشديد عند التعامل معها، بدرجة جعلت مجرد ردي على رسائلها أو الإتصال بها عبء ثقيل، ومناسبة تستلزم مني أن أتحضر نفسيًا قبل الحديث معها، وأن أتخذ «تدابير تعافٍ» بعد الإنتهاء من مكالمتها.

 أدركتُ للمرة الأولى أنني أشعر بالاستنزاف النفسي بسببها عندما انتبهت في مرة أنني أجلس إليها منذ ما يقرب من الساعتين وهي تتحدث عن مشاكلها بلا انقطاع، وبدون أن تسألني عن نفسي أو تمنحني فرصة للحديث، وكأن أحاديثنا يجب أن تتمحور فقط حولها، هنا شعرت أخيرًا بموطن الخلل، وسبب شعوري بالثقل معها هي بالذات؛ هذه الصديقة تستنزف ببساطة طاقتي النفسية بالكامل، وتُشعرني بعدم القيمة وبأنني لست موجودة في علاقتي بها، وأنني فاقدة لصوتي معها.

ما هي الصداقة؟

هذا سؤال نطرحه كثيرًا على أنفسنا، وكلما تفكرنا في إجابته نشعر بأن معنى دافئًا يلامسنا؛ شعورًا أشبه ما يكون بشمس حنونة تغمر قلوبنا بالأمان، والإحتواء، والفهم، والتقدير، والمحبة الخالصة، وتمني الخير للغير، لكننا ولو اتفقنا ضمنيًا على وقع كلمة «صداقة، صديق» علينا، فإننا دومًا نختلف في طريقة التعبير عن هذا الزخم المشاعري الجميل الذي يُصاحب تأملنا لها.

فحد الصدّاقة عند ابن حزم الأندلسي على سبيل المثال: «هو أن يكونَ المرءُ يسوءُهُ ما يسوءُ الآخرَ، ويسرُّه ما يسرُّه، فما سَفلَ عن هذا فليس صديقا، ومن حَمَلَ هذه الصّفةُ فهو صديقٌ».

أما أرسطو، فالصداقة لديه درجات وأقسام؛ فهناك صداقة المنفعة كعلاقات زمالة العمل والدراسة، وصداقة المتعة واللذة الناتجة عن ممارسة الاهتمامات المشتركة بين الزملاء أو الأقران، وصداقة الفضيلة؛ وهذه بالذات هي أسمى درجات الصداقة وأندرها على الإطلاق في رأيه، لأن الإنسان في هذا النوع من الصداقة يحب أصدقاؤه بحق، ومن أجل صفاتهم وأنفسهم، وفي الغالب هذا النوع من الصداقة يؤثر في شخصيته وتكوينه النفسي وقد يجعل منه إنسانًا أفضل. 

 لكني عندما أحاول تعريف الصداقة، لا أجد أجمل من مقولة هنري ديفيد ثورو: «لا تؤسس الصداقة أبدًا كعلاقة مفهومة. إنها معجزة تحتاج إلى براهين ثابتة. إنه تمرين لأنقى الخيالات وأصفى مشاعر الإيمان».

هل صداقاتك حقيقية، أم أنك محاط بمصاصي طاقة؟

عندما رغبت في التأكد من مدى جودة علاقات صداقاتي، قمت بمسح شعوري تجاه علاقاتي، من خلال محاولة سبر ومراجعة كل تغيير يطرأ على مشاعري تجاه صديقاتي بعد بعض المواقف، بالذات المواقف الفارقة، ووجدت نفسي لا إراديًا أقيس كم كنت حقيقية، ومفهومة، ومسموعة، وأتصرف بسجيتي تمامًا في هذه المواقف وعلى امتداد عمر تلك الصداقة.

سعدت لحقيقة أنني أمتلك علاقات صداقة حقيقية ورائعة وداعمة، أما العلاقات التي كانت تستنزفني اكتشفت أنني أصبحت واعية تمامًا بالوقت والتجربة لحقيقتها، وأنها تمتص طاقتي، فلم أعد أتوقع منها الكثير؛ فلا أقطعها من باب الإبقاء على الود، ولا أعتمد عليها كصداقة مؤثرة وعميقة.

هذه القدرة على الانتقاء والانتخاب توصلت إليها بعد فترة طويلة من الفهم العميق لمعنى الصداقة والتعافي من جروحها، ومن خلال الصراحة مع النفس، والتحدث بانفتاح مع الصديقات عن تصوراتي عن علاقة الصداقة التي أحب التواجد فيها، وما يمكنني تقديمه وما أنتظره منهن، ووضع الحدود والإنسحاب الناعم من كل ما شعرت أنه لا يناسبني، وبلا أدنى مشاعر ذنب؛ فالصداقة مشاركة ناضجة وواعية، وقيمة وإثراء ومحبة وفهم، لا مجرد تشكي، وتلاعب عاطفي، وممارسة دور ضحية بلا انقطاعٍ يورث في النهاية مشاعر سلبية مستمرة.

هل أنا مغناطيس للصداقات السامة؟

في لحظة معينة قد يتساءل من يجد نفسه محاطًا بأصدقاء مصاصي طاقة عما إذا كان جاذبًا للصداقات السامة والأصدقاء النرجسيين، وهذا جيد؛ لأن الإجابة ستساعده على إدراك الكثير من الحقائق عن نفسه في خضم بحثه عن سر انجذابه وجذبه للصداقات المُسيئة.

أغلب من يقعون في فخ الصداقات غير المناسبة لديهم العديد من الصفات التي تندرج تحت اللطف الزائد، مثل التساهل الشديد مع الأخطاء الكبيرة، والميل للتبرير للمخطئ وإعذاره بحجج واهية، أيضًا التقدير الذاتي المنخفض وضياع البوصلة الشخصية والهوية الذاتية، ما يمنع الشخص من سن قوانينه وفرض حدوده، يمكن لصدمات الطفولة المختلفة أن تكون سببًا في رغبة الإنسان الدفينة وغير المفسرة في إعادة كتابة الماضي بطريقة تصحيحية، ما يجعله مغناطيسًا للعلاقات السامة التي يحاول فيها إنقاذ الآخر وفي نفس الوقت، في لا شعوره؛ هو يحاول تغيير أحداث قصته القديمة.

وما أن ينتبه الإنسان لدوافعه، ويُدرك حقيقة سماته الشخصية، والفارق بين اللطف والاستباحة، سيتعين عليه أن يبدأ في وضع بعض الحدود من أجل تغيير نمط علاقاته، وبالتالي مساعدة نفسه على التغيير للأفضل في ظل علاقات صداقة صحية وداعمة.

تقول نادرة جلوفر تواب، في كتابها «ضع حدودًا وانعم بالسلام» : «صحيح أن وضع الحدود ليس بالأمر اسهل. الخوف بشأن كيفية استجابة شخص ما يمكن أن يعيقنا بسهولة. قد تقوم بتفاعلات محرجة في عقلك وتجهز نفسك لأسوأ نتيجة ممكنة. لكن ثق بي: الانزعاج قصير المدى لعلاقة صحية طويلة الأمد يستحق كل هذا العناء في كل مرة».

 لماذا نأخذ الصداقة على محمل الجد؟

واحدة من تفسيرات أصل كلمة إنسان، أنها مشتقة من فعل «الإيناس» أو «الونس»؛ وهو ببساطة مشاعر الأُلفة التي تغمرنا بوجود إنسان يتحدث معنا ويُسامرنا ويستمع إلينا ونستمع إليه.

ولو تأملنا في أنفسنا ومراحلنا العمرية، سنجد أننا لا نتوقف عن البحث عن صديق؛ نميل للتعرف على الجيران الجدد، وكثيرًا منّا يُبادر في التعرف على زملاء العمل الذي انتقل إليه مؤخرًا، وبعضنا متكلم وتلقائي لدرجة أنه لا يجد غضاضة في إجراء الأحاديث العابرة في الطائرة، أو محلات البقالة أو أثناء إنتظار دوره في البنك؛ فالإنسان يأنس بالمشاركة والأحاديث، وبوجود الناس من حوله، ولعل أبرز ما يُلخص حاجة الإنسان للإنسان هو المثل الدارج: «جنة من غير ناس، ما تنداس».

 تقول أبحاث الطب النفسي إن الصداقات الحقيقية الداعمة قد تُطيل عمر الإنسان، بل وتُغير كيمياء دماغه ومدى فاعلية وظائفه الحيوية؛ فالأشخاص الذين لديهم أصدقاء مقربين يكونون أكثر رضا عن حياتهم، وأقل عرضة للمعاناة من الاكتئاب، كما تقل لديهم احتمالات الوفاة بسبب عوارض صحية ونفسية عن غيرهم؛ بما في ذلك مشاكل القلب وأمراض الشيخوخة.

هل أنت صديق جيد؟

أطرح هذا السؤال على نفسي كثيرًا؛ في البداية كان من باب التشكك خاصة بعد كل موقف أُقرر اتخاذه لوضع حد لتصرفات تضايقني من صديقتي مصاصة الطاقة، لكن بالوعي بالذات، والنضج والهدوء أصبح السؤال يحمل نوعًا من التأكد ومراجعة الذات بحنان وتقييمها بحب.

عندما طرحت هذا السؤال على قوقل منحني إختبارًا صغيرًا أجرته أوبرا وينفري في موقعها وبغض النظر عن نتيجته أعرف أنني صديقة جيدة، لأنني أحرص على منح لصديقاتي كل ما أود أن أحصل عليه منهن، فإن كنت مستمتعًا جيدًا، وناصحًا أمينًا، تُبرز محاسن الصديق وتُخف زلته وتحرص على انتقاء كلماتك ونواياك تجاه صديقك، فأنت إنسان رائع؛ هنيئًا لنفسك ولأصدقائك وكل محيطك بك.

عندما نظرت بعين الحكمة لوجود أنواع البشر المختلفة في حياتي أدركت أن الله يريد أن يُرشدني الجميل بتعاليم جماله، وأن أتعلم الرحمة والانتباه للذات ومحاسبتها من مصاصي الطاقة، والسامين، ولذلك أجد في كل علاقة صداقة فائدة، ووسيلة لأعرف نفسي أكثر، وأتصل بروحي أكثر وأكثر، ولهذا أنا لا أتوقف عن صنع الصداقات الجديدة، والإستمتاع بالأحاديث مع الصديقات على إختلافهن، خاصة بعدما قرأت الدليل الإرشادي اللطيف الذي مررته العنود الزهراني في تدوينتها عن بدء المحادثات الرهيبة في اجتماع قد يضم صديقة محتملة بين حشوده، معارف الناس كنوز، والصداقة أثمنها.

32
0
اشتراك
تنبيه
guest

5 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

نسبية السعادة
10 تشرين الأول

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 3 دقائق
خطة مستقبلية مضمونة
29 كانون الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 7 دقائق
هوسنا بالمال
7 آذار

|

المال والأعمال
وقت القراءة: 4 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً