كلما حاولنا أن نحثّ أنفسنا على إنجاح أمرٍ ما، نتلمّس في دواخلنا خيطًا رفيعًا من الأمل، نرجوه ألّا ينقطع. نظن أننا لا نزال نملك القدرة على المحاولة، على التقدّم ولو خطوة واحدة نحو الأمام. وقبل أن نغفو كل ليلة، ننسج أحلامًا واهية نرضي بها هشاشة أرواحنا، فقط لنقنع أنفسنا أن التمسك بالحياة خير من مواجهة حقائق قد تبدو أقل قسوة من الفشل.
في سكون الليل، نصبح مخرجين وكتاب لقصصنا، نعيد صياغة الواقع كما نشتهي. نحلم بنجاحٍ عظيم، ننسج منه مجدًا دون أي عثرات. فالخيال وحده لا يخضع للرقابة، ففيه نصبح ما نشاء، أبطالًا منتصرين وأصحاب حظ لا يخون.
لكننا لا ننتبه أننا ندور في هذه الحلقة إلا بعد أمد، نلتفت فجأة لنرى أننا لازلنا في مكانٍ مألوف... مكان كنا نظن أننا فارقناه منذ زمن.
، لا نعي أننا ندور في دوامة لا مخرج منها، ننساب نحو عوالم متوازية خيالية، لا تشبه حياتنا ولا تشبهنا، شيئًا فشيئًا يتآكل فينا الرضا، لا الحاضر يكفينا ولا المستقبل يرضينا، ولا حتى ما نصنعه بأيدينا يبدو جديرًا بما نحلم به، كل شيء يُقاس بمقاييس الوهم، فنحكم عليه بالنقص قبل أن يكتمل.
ولأن الخيال واسع بلا قيود نظنه خلاصنا، نهرب إليه كمن يلجأ إلى دفء كاذب في ليلة باردة. نغفل عن الحقيقة المرّة، أن الخيال حين يتجاوز حدوده يصبح عبئًا، يصبح شبحًا يُطاردك، لا صديقًا يواسيك.
دع خيالك للتسلية، نعم... امنحه تلك المساحة الصغيرة في نهاية يومٍ مرهق، لكن لا تسمح له أن يتحول إلى بديل عن الواقع، لا تجعل منه وعدًا زائفًا لا يتحقق، استفق وعد إلى يقظتك الذهنية، امسك بزمام الأمور قبل أن يفلِت منك كل شيء، سيطر على ذاتك لا على أحلامك، كي تعيش حياة ترضيك أنت، لا نسخة مثالية صنعها وهمٌ في رأسك.
الخيال جميل دون شك، فيه لحظات لا تُنسى، فيه لمحة من الحُلم الذي قد يُعيننا على اجتياز الأيام القاسية. لكنه حين يتضخم، يبدأ بتخريب أشياء لم نقصد يومًا المساس بها، فيختطفنا من ذواتنا ويقودنا إلى متاهات تشبه "أفلام الفانتازيا"، تلك العوالم المزخرفة التي لا وجود لها... إلا في شاشات السينما، أو في خيالات مرهقة.
كأنك تدخل فيلمًا مثل "أفاتار"، تغلق الباب خلفك، وتنسى أن الحياة التي تركتها كانت تنتظرك لتكملها لا لتستبدلها، وفي تلك العوالم لا خلاص بلا تضحية، وقد لا تعود منها أبدًا كما كنت.
يحكي فيلم "أفاتار" قصة كائنات زرقاء تعيش في كوكب بعيد، وعن محاولة البشر في التواصل معهم... أو استعمارهم، لا فرق. التقنية في الفيلم تسمح بنقل وعي الإنسان إلى جسد يشبه سكان هذا الكوكب، وكأن الحلم يتحقق: يستطيع من لا يملك أطرافًا أن يتحرك، أن يركض، أن يطير حتى.
تطلق البشرية مشروعًا يسمى "برنامج أفاتار"، وهو نظام يسمح للعلماء والجنود بنقل وعيهم إلى أجساد هجينة (نصف بشر ونصف ناڤي) تُعرف باسم "أفاتار"
إن أردت تبسيط الفكرة، فهو يشبه ما نفعله نحن في أحلام اليقظة... حيث نمتلك ما لا نملكه، ونكون من لسنا عليه، لكن بصورة مفرطة، أقرب إلى الوهم.
ذلك هو وصف بسيط، أقوله دون الخوض في تفاصيل أكثر – لا لأني أتجنب "حرق" الأحداث، بل لأن الذاكرة لم تسعفني، ولأن ما يهمني هنا ليس الفيلم نفسه، بل ما يعنيه.
ربما لأن الحقيقة أثقل من أن تُشرح بمثال واحد، أو لأن الإنسان بطبعه لا يُحب أن يواجه ما يخشاه، فيكتفي بالإشارة ثم يصمت.
وربما لأجل ذلك، نحن نحب الخيال... لا ليبهجنا فقط، بل ليُنسيَنا من نكون.
ربما لا يكمن الخطر في الخيال نفسه، بل في تلك اللحظة الدقيقة التي نُسلّمه فيها زمام أمورنا، ونترك الواقع خلفنا كقطعة أثاث مهملة، فالخيال ليس عدوًا لكنه ليس وطنًا أيضًا، هو مكان عابر كالعاصفة أو كالحلم بعد يوم طويل، من الجميل أن نزوره لكن من المرعب أن نسكنه.
إن التحدي الحقيقي ليس في أن نحلم، بل في أن نستفيق بعد الحلم، أن نعيد ترتيب الواقع بما تبقّى من الأمل لا من الوهم. أن نُبقي أقدامنا على الأرض، حتى وإن حلّقت عقولنا للحظات.
(الخيال لعنة) نعم، حين نُخضع أنفسنا له طائعين، نُعجَب بصورنا داخله، وننسى أن المرآة التي نرى فيها ما نحب، ليست حقيقية.
ففي النهاية، كل خيالٍ بلا فعل، كصرخة في الفراغ: لا تُسمَع، ولا يُستجاب لها.
شاركنا تعليقك من هُنا