لـ منار العواضي
لطالما تساءلت عن ماهية الحرية الحقيقية: أهي التحرر من القيود كلها؟ أم أن تحلق كطير في السماء؟ أو أن تعيش كما تريد؟ هل هي مجرد مصطلح لا معنى ملموس له؟ ما معنى أن تكون حراً؟ هل يعني ذلك التحرر من المنطق والفطرة والعيش لفعل كل الأشياء التي تخطر على بالك دون تفكير أو مراجعة؟ هل أن تكون حرًا يعني أنك ستكون سعيدًا؟
كينونة الحرية:
في الحقيقة، نحن لم نولد أحرارًا، ولم نذق طعم الحرية قط إلا في اللحظات الأولى بعد الولادة! لطالما قُيدنا بالكثير من القيود والأصفاد التي جعلتنا نتحرك فقط في محيط أوسع من السجن! منذ الولادة قيدتنا أسماؤنا التي لم نخترها، وترتيبنا بين إخوتنا، السرير الذي ننام عليه، ملابسنا وحتى الطعام الذي نتناوله! زياراتنا العائلية والأقارب الذين أجبرنا على الابتسام في وجوههم، وإن كانوا في نظرنا سيئين! ثم التحقنا بالمدارس التي رُتبنا فيها حسب حروف الأبجدية أو المستوى العلمي! لم يُسمح لنا حتى باختيار المقعد الذي نجلس عليه أو المعلم الذي ننهل من علمه، أجبرنا حتى على ارتداء زي موحد لنصطف بعدها في صفوف تقودنا. ثم تخصصنا الجامعي الذي اخترناه تحت ألف ظرف واحتمال.
المبادئ التي كبرنا عليها، وأصبحنا نواجه الحياة بها، وندافع عنها فقط لأنها كبرت معنا! قيود كثيرة لا يمكن حصرها، منها ما يخنقنا، كالكلمات التي كان يجب أن ننطقها، لكننا حبسناها خشية ورحمة! لا زلنا قطيعًا كصف المدرسة لكننا أكثر اتساعًا وعشوائية.
قيد كاللجام:
من وجهة نظري، أن أكبر قيد يقتل الإنسان حيًا هو أفكاره! عقله الذي كرمه الله به، وأعطاه بصيرة مستنيرة دونًا عن بقية خلقه، ولكنه اختار ألا يستخدمه، وألا يسخره فيما ينبغي! يبقى مقيدًا كفرد في قطيع مسير، لا يهمه إلا ما يقتاته والمأوى الذي يلجأ إليه ونوع المتعة التي تسعده. ينساق خلف الموجة الرائجة والموضوعات الشائعة والأخبار المتداولة، دون أن يُنير عقله بشيء من التحرر والتفكر والتأمل! دون أن يعطي نفسه مساحة لصنع شيء واحد يخصه لا يشبه فيه أحد.
حرية التعبير:
لم يكن الإنسان يومًا حرًا على الإطلاق! لكن الحرية تكمن في إطلاق سراح أفكارنا التي بإمكانها أن تأخذنا إلى أبعد نقطة في الكون وأسمى المراكز الحياتية، أو أن تخسف بنا إلى هاوية سجن الحياة الواسع، ونظل عالقين فيها كأسرى مدى الحياة! أسرى عادات سامة وأفكار ومعتقدات! نعيش في عالم يُشاع ويذاع فيه عن حرية طرح الأفكار والآراء في كل مكان! لكن في الحقيقة، هناك سلاسل مخفية تقيد كلما يصدر منا من قول وفعل! عالم يشبه كل شيء إلا حرية التعبير وحق الحوار! من منزلنا حتى أقصى الكرة الأرضية! تقيدنا أمور نفسية ومجتمعية، نخشى البوح بها!
أجنحة لا تعرف كيف تحلق:
أظن أحيانًا أن الحرية المطلقة قد تقتل الشغف، وتسلب الحماسة للحياة! لأن كلما تود فعله ستفعله بمجازفة دون وضع اعتبار للعواقب الوخيمة التي قد تقتل حماسك وطموحك، وتنسى كيف تحلق بأجنحتك كطير. ثم أدركت أن تلك الحرية التي أبحث عنها ليست في الأجنحة، فحتى الطيور تحلق في سرب! مقيدةً بأشياء نحن لا نعرفها كالمواسم التي تهاجر فيها والوقت الذي تحلق فيه بحثًا عن الطعام.
هل إذا حصل الجميع على حرية التفكير والانطلاق واتخاذ القرار، سيسيرون في الطريق الصحيح؟ هل سيغدو العالم مكانًا أفضل أم سيعج بصخب بالغ؛ لأن الجميع يتحدث ويتحدث! هل سنستطيع وضع حدود فاصلة بين الحرية الشخصية والوقاحة والطغيان؟
الحرية من وحي نزار قباني:
قد ولدتنا أمهاتنا أحرارًا بلا شك، لكننا لم نولد في الغابة، وإنما ولدنا في إطار بيت وأسرة ونظام اجتماعي نشترك في تأسيسه مع الآخرين. إن الحرية بحر لا ساحل له، يركبه الرواد والمكتشفون، كما يركبه من يسعى للاستغلال والمصلحة الشخصية. نحن بالطبع نرفض الحرية التي تُستخدم كوسيلة لتحقيق أهداف ضارة أو غير أخلاقية، لأنها تقوم أساسًا على الجريمة والنشل والتعدي على حقوق الآخرين. إننا مع الحرية بلا تردد، ومع الأحرار إلى آخر الشوط، شريطة أن تكون هذه الحرية مقيدة بضوابط أخلاقية وعقلانية وثقافية وقومية تجعلها في خدمة الإنسان. لا يكفي أبدًا أن نكون أحرارًا، بل لا بدَّ لنا من أن نستحق حريتنا.
في النهاية، من وجهة نظري، أرى أن الحرية مصطلح نسبي لا معنى محددًا أو واضحًا له، من الصعب إمساكه أو حصره؛ لأنه هو بذاته متحرر من الشرح والوصف. والحرية تكمن في أن نعطي أنفسنا مساحة للإبداع من الداخل قبل الخارج.