لطالما أرّقني هاجس التفتيش عن الرأي الصائب فيما استحدثته الحياة من شؤون ومجالات فكرية، خشيةَ تبنّي رأيٍ خاطئ أجنح فيه إلى هواي، أو أشطّ فيه عن جادة العقل السليم. ثم ما إن أستقر على رأيٍ ما، حتى يلوح في عقلي المؤرِّق الأكبر:
هل كل ما أتبنّاه من الأفكار والآراء صحيحٌ يقينًا؟
هل من المنطقي أن تكون منظومة أفكاري — إن صحّ التعبير — وحدها دون غيرها، صحيحة بالكامل؟
هل أنا محصّن من الزلل، وغيري واقع فيه لا محالة؟
بالتأكيد لا أدَّعي ذلك، ولهذا أجدني دومًا مضطرًا إلى مساءلة أفكاري وآرائي، وإخضاعها لنيران الشك والتمحيص.
لا شك أن تحقيق الصوابيَّة المطلقة في الآراء درجةٌ متعذّرة على البشر، ولا يمكنهم الوصول إليها.
ولا أتحدث هنا عن المسلّمات التي ليس للتفكير والتحليل شأنٌ في تبنِّيها (إذ إن التسليم شأنها)، كما قال الشاعر:
“وليس يصح في الأذهان شيءٌ… إذا احتاج النهار إلى دليلِ”
بل أعني كل فكرة تخضع للتفكير البشري، حيث يمكن أن تكون صائبة أو خاطئة، أو لا يكون صوابها أو خطؤها واضحًا تمامًا.
بعدما آمنت أن الوصول إلى الصحيح التام أمرٌ متعذِّر، شرعتُ بالبحث عن أساليب لاجتناب الآراء الخاطئة على الأقل — إذ لا بد أن يكون هناك خطٌّ واضح يمكن الإمساك به في الآراء الخاطئة؛ فإن كانت صحّة الصواب تحتمل النسبيّة، فإن فساد الخاطئ لا يحتمل ذلك.
وجدت لدى أهل الفكر ما يُسمى بـ”قانون المتوالية الفكرية”، التي تنص على أن كل رأي له تبِعات ولوازم، وكل لازمة سيندرج تحتها لازمة أخرى، وهكذا…
فحين يكون الرأي فاسدًا فسادًا كامنًا غير ظاهر، سيتّضح فساده في اللوازم والآراء النهائية.
فلو قلت إنّي سأتبنّى الرأي الفلاني — وهو رأيٌ خاطئ لا يبدو عليه الخطأ في الوهلة الأولى — سأضطر إلى تبنّي كل ما يترتّب عليه من لوازم، التي ستنقلني من نقطة (أ) إلى نقطة (ب)، ثم إلى نقطة (د)، والتي سيكون الخطأ فيها بيِّنًا لا يخفى على عاقل.
لاحظ المفكرون “قانون المتوالية الفكرية” حينما تساءلوا: ما الذي دفع أصحاب الآراء واضحة البطلان إلى الوصول إلى تلك المنطقة العمياء؟
فوجدوا أن ما حملهم على ذلك هو التزامهم بمبدأ نظري معيّن — ملتبس الصحّة — دون إدراك لمآلات ونهايات هذا المبدأ، ثم شيئًا فشيئًا ينجرفون — تعنّتًا عن تصحيح موقفهم — ليتبنّوا كل ما يؤدّي إليه، مهما بدا باطلًا.
وللإمام ابن تيمية — رحمه الله — التقاطةٌ دقيقة في ذلك، كما يقول:
“وإذا كان الغلط شبراً، صار في الأتباع ذراعاً، ثم باعاً، حتى آل إلى هذا المآل.”
أعتقد أنّ التنبُّه إلى المآلات واللوازم من الأدوات التي تساعد عقولنا في تجنُّب الآراء المغلوطة، كأن نسأل أنفسنا:
إذا تبنّيت الرأي الفلاني؛ ما الذي سيترتّب عليه لاحقًا؟
وأن نضع في الحسبان أن الرأي الملتبس في بدايته قد يجرُّنا إلى مستنقعات لم نكن لنتوقّع أن نغرق فيها.
هذا فيما يخص تبنّي أطروحات جديدة على الإنسان،
أما ما كان من ضمن منظومة الأفكار المتبنّاة سابقًا،
فمن الجميل أن يفتّش الإنسان — في لحظة صدقٍ مع الذات — عن الباعث الحقيقي لاعتقاده بها؛
فكثيرًا ما يكون المحرّك للرؤى الفكرية عائدًا إلى أساسٍ ضمنيّ في دواخل النفس، لا إلى أساسٍ علميّ في الرؤى ذاتها
شاركنا تعليقك من هُنا