لـ لمى سامي
في حادثةٍ بريئة، جاء ابن أخي عندي بابتسامة عريضة وخطواتٍ سريعة، وقال لي أولًا: “أنا عمري ثلاثة، إنتِ كم عمرك؟” أجبته بكل صراحة، وحينها بدت الدهشة على ملامحه، وتوسّعت عيناه قائلًا “الله! كثييير”، ثم هرب بخطواتٍ أسرع. أضحكني تعليقه وكان موقفًا يُسرد في اجتماع العائلة. ولكن هل فعلاً سنوات عمري كثيرة؟ تعليق ابن أخي حيّرني نوعًا ما، لأنني لا أزال أشعر وكأنني في عمر الثامنة عشر، حيث أتمتع بروح الصِبا والأحلام والشغف والصحة والصُحبة. هل عمري الـ “كثير” مجرد رقم شكلي، أم أنه يعكس حقيقة لا أستطيع إنكارها رغم شعوري المختلف؟
العمر.. مجرّد رقم
أثناء مرور الأيام، يغفل الأشخاص عن حقيقة أعمارهم الحقيقية، ولا يتذكروها إلا حينما يُوجه لهم سؤالٌ ما أو يقترب يوم ميلادهم، أو تظهر لهم معلوماتهم في تطبيق الخدمات الإلكترونية. ومع أنه أمر مسلم به، يفضل البعض أن يذكر عمره أصغر بسنة أو سنتين متمسكًا بذكريات الشباب، والآخر يريد أن يكون أكبر ليتيح له ما مُنع عنه. وأصحاب الفئة الأولى يظهرون أكثر. فلكبر السن وقع غير محبب لما يرتبط به من الصفات المنتشرة عن كبار السن. وبكبار السن لا أعني من هم فوق الستين وحسب، إنما أولئك الذين يكونون كبارًا وحسب، وجميعنا نكون أكبر من أي أحد أصغر منّا.
ومع أني لا أزال شابة، إلا أني قطعًا أكبر في السن من ابن أخي ذو الثلاث سنوات! أن يكون الشخص أصغر، يعني أن يكون أقوى وقادرًا على تأدية مهامه بأريحية، ويعني أن يملك وقتًا كافيًا ليستمتع به بعيدًا عن مسؤوليات عالم الكبار، ويحظى بصحبة ممتعة حيث يلقون النكات ويضحكون على ما يراه الأكبر منهم سخيفًا. ويقعون في الحب مع من يختاره قلبهم بسهولة، ولا تحمل ملامحهم التجاعيد أو شعرهم الشيب، والأهم من هذا كله، يفكرون بطريقة مختلفة عن الكبار.. بطريقة شابة!
الشباب والصغار في السن يمتلكون تلك الروح التي تجعل الحياة أجمل، دون القلق من وصمة “التقدم في السن”. ولكن هذه الصفات لا تنطبق فقط على من هم حقًا في بداية مراحل شبابهم ونهاية مراهقتهم. قد يتمتع المرء بكل هذه الصفات وهو في نهاية الأربعين، وقد لا يتمتع بها، لكنه لا يزال يشعر بأنه أصغر مما هو عليه. فالعمر رقمًا أحيانًا لا يُعبر عنّا ولا عن عمر أرواحنا وشخصياتنا الحقيقية التي نشعر بها، فمهما كبر سننا، هناك شيء يجذبنا لأن نكون أصغر.
ولكن حينما نستذكر الوقت الحقيقي الذي كنا فيه “أصغر”، سنجد أننا كنّا نكاد لا نطيق الانتظار لكي نتقدم في العمر ونصبح قادرين على فعل أشياء كثيرة، أولها عدم تزوير أعمارنا في المواقع أو الألعاب التي لا تسمح إلا بعمر معين. القيود تكثر حينما تكون أصغر، وتجدها تتلاشى بعد سنة أو سنتين. فلماذا نمتلك معضلة تجعلنا نرغب في العودة إلى مرحلة أصغر، وإن كان هناك بعض القيود المفروضة علينا؟
رؤيتنا لأعمارنا من الداخل
أن تشعر أنك أصغر من عمرك الحقيقي ليس مجرد شعور نابع عن فتوتك وشباب روحك فحسب، بل هو شعور منتشر بين العديد من الأشخاص. الأبحاث العلمية حاولت استكشاف السبب وراء هذا الشعور وما تترتب عليه من تبعات. والمُدهش أن معظم البالغين كانوا يشعرون أنهم أصغر من عمرهم الحقيقي. كما أن الفجوة بين العمر الحقيقي والعمر الداخلي — الذي تشعر أنه عمرك الحقيقي — تزداد كلما تقدم الشخص في العمر، ولعل هذا يكون بسبب الرغبة في إنكار التقدم بالعمر.
لكن من ناحية أخرى، يُعتبر شعور الإنسان بأنه أصغر دليلًا على أنه يتقدم في العمر بشكل ممتاز ويتمتع بصحة نفسية جيدة وأداء أفضل، لذا يختلف عمره الداخلي عن العمر الحقيقي. أُجريت دراسة في الدنمارك على عينة من الأشخاص، كانت تهدف إلى دراسة العمر الداخلي، والفرق بينه وبين العمر الحقيقي. فطُلب من المشاركين تقييم ما إذا كانوا يشعرون أنهم أكبر أو أصغر أو بنفس عمرهم الحالي، بالإضافة إلى تقديرهم لعمرهم الداخلي كرقم محدد.
عدد المشاركين كان أكثر من 1300 شخص، تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والتسعين. 70% من المشاركين كانوا يشعرون بأنهم أصغر من عمرهم الحقيقي، لكن المفاجأة أن الـ 30% المتبقية كانوا من الأشخاص الذين عبّروا عن أنهم يشعرون بعمرهم كما هو، دون أي فرق. وكان هؤلاء من الفئة العمرية الأصغر! حينما يكون الأشخاص تحت سن الخامسة والعشرين، لا يراودهم شعور بأنهم “أصغر”. لكن بعد أن يتجاوزوا هذا السن، يبدأ لديهم شعور اختلاف عمرهم الداخلي عن عمرهم الحقيقي، وتزداد الفجوة بينهما مع تقدم العمر.
جميع من كانوا فوق الأربعين كانوا يشعرون بأنهم أصغر من أعمارهم الحقيقية بنسبة 20%! وهذا يعني أن من كان في الأربعين فعلاً، شعر بأنه في بدايات الثلاثين. وهذا يؤكد على حقيقة انتشار شعور أننا أصغر، لا سيّما عند كبار السن. فقد تبدو أربعون عامًا طويلة بما يكفي ليدرك المرء عمره، لكنها ليست كذلك.
أيهم أصح، الحقيقي أم الداخلي؟
أحيانًا، يصفعنا الواقع بتذكيرنا بعمرنا الحقيقي، وقد يكون ذلك بسبب وقع الرقم الكبير الذي نحمله. تمامًا كما كان وقع رقم عمري على ابن أخي، حيث بدا أن دهشته من وجود عمر لا يمكن عدّه على الأصابع كانت كبيرة لدرجة أنه هرب بعيدًا. والحقيقة أن الكثير من الأشخاص يشعرون بنفس هول الصدمة حين يدركون أعمارهم الفعلية. لكننا لا نستطيع الهروب من هذه الحقيقة. قد تكون هذه الصدمة بسبب كبر الرقم، أو لأن الوقت مر بسرعة أكبر مما كان متوقعًا، أو ربما بسبب ما فات ولم يتحقق بعد. هذا الشعور غالبًا ما يلازم الجميع بمجرد أن يصبحوا بالغين، وهو أمر طبيعي. السر قد يكمن في شعور “أنا أصغر من عمري”.
وفقًا للباحثة سيرينا ساباتيني، المتخصصة في الصحة النفسية والتقدم في العمر، فإن تقدير الشخص لتقدمه في العمر ومدى إدراكه لهذا التقدم ينعكس في العمر الداخلي الذي يشعر به، ويرتبط ارتباطًا مباشرًا بالصحة العامة وجودة الحياة. يُعتبر التقدم بالعمر ناجحًا عندما يتمكن الشخص من تجنب الأمراض، الحفاظ على صحته العقلية، وممارسة النشاط البدني، وأخيرًا الارتباط المعنوي بالحياة. حينما تتحقق هذه العوامل الثلاثة، يشعر المرء بأنه أصغر، حتى وإن كان في الخمسين من عمره.
إذا أخذنا لحظة للتفكير، سنجد أن العمر الحقيقي يصبح مجرد رقم غير مهم إذا كان الإنسان يتمتع بكل الخصائص التي تجعله يشعر وكأنه في سن أصغر. يبقى العمر حقيقة لا يمكن إنكارها، وقد يسبب بعض الإحراج إذا كان المجتمع المحيط أصغر سنًا وظهرت الفروقات في ملامح الوجه وطريقة التفكير. لكن طالما أن هناك شعورًا داخليًا يؤكد حقيقة “أنا أصغر”، لنتمسك بهذا الشعور، ونسمح لأنفسنا بالعيش بحرية، فنعيش كما لو كنا أصغر سنًا، رغم عمرنا الحقيقي، ونحدد حاضرنا بتجاربنا وخبراتنا التي مررنا بها، دون أن نُقيد أنفسنا بالرقم الذي يحدده تاريخ ميلادنا.