جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

أدخلني بيتك، أقول لك من أنت
4 آب
العمارة

أدخلني بيتك، أقول لك من أنت

4 آب

|

العمارة
بدعم من

    كيف تصف شعور وصولك إلى بيتك بعد عناء سفر طويل والاستلقاء على سريرك الخاص؟ أيًّا كان حجم ورفاهية وترتيب بيتك في تلك اللحظة، أكاد أجزم بأن الإجابات والابتسامة ستكون واحدة. ما سرّ البيت الذي يجعله أليفًا إلى هذا الحد؟ ولماذا نُسمّيه “سكنًا” بالرغم من كل الضجيج الذي قد يتخلله؟

يجيب على هذه الأسئلة غاستون باشلار، الفيلسوف الفرنسي الذي حاول سبر أغوار البيوت تحديدًا وفهم علاقتها بمشاعرنا وذكرياتنا وقيمنا من خلال انعكاساتها في صور الشعر والأدب. وبالرغم من تعمق كتابه “جماليات المكان” في شرح فلسفة انعكاسات المكان في الأدب، ليس فقط كمسرح للأحداث، بل كرموز تكشف لنا مؤلفيها وذواتهم، إلا أنني هنا سأحاول الإجابة في هذا المقال عن بعض هذه الأسئلة لتسهيل قراءة أنفسنا من خلال قراءة بيوتنا، بلغة بسيطة يفهمها الجميع.

لماذا تقول البيوت الكثير عنّا؟

“البيت هو مكان الألفة الأولى، حيث تتكوّن حواسنا وتصير جزءًا من الجدران والنوافذ والأبواب”، كما يقول غاستون باشلار. ومن المنظور المعاكس، فإن تأمل أجزاء البيت يكشف نوعية المشاعر والأمزجة التي ترافق ساكنيه. وإذا ما اتبعنا منهجية باشلار في فهم المكان، وقدرتنا على رؤية الفضاء المألوف بعين القلب لا بعين العادة، ولا بعين التخصص، فإننا نخلق استجابة وجدانية تتجاوز حدود الوظيفة والجمال، لتمسّ جوهر المعنى.

حينها، تصبح الشاعرية أداة لفهم الذات التي تشكّل وعينا، وأداة لتغيير وتحسين بيوتنا كي تحتضن لحظاتنا بقدر حميميتنا وحضورنا العاطفي.

والطريقة، وإن بدت فلسفية، بسيطة في جوهرها؛ فقد نبدأ بعنصر محدد كالنافذة، أو نركز على غرفة بأكملها، أو نتتبع ما يتخلل الفراغ من ضوء وظلال. خذ مثلًا غرفة المعيشة كقلب لأغلب البيوت، فهي مرآة تعكس من يسكنها عبر عناصرها. يمكن تحليلها من ناحية تصميمية: مقاسات الأريكة، بعدها عن التلفاز، ترتيب الأثاث، والانسجام البصري. لكنّ التأمل يذهب أبعد من ذلك: ذلك الانخفاض الخفيف على جانب واحد من الأريكة مشيرًا لكثرة الركون إليه، والكتب المتراكمة جوار النافذة، ودفء الضوء متخللًا بسهولة ستائرها الشفافة، والنباتات المصفرة وهي تنادي بصمت لمن يسقيها في الزاوية. كل من آثار ساكني المكان، واختياراتهم التي تبدو عفوية، إلى جانب عناصر الفضاء الأساسية، تحكي قصصًا صغيرة عنهم.

الفتحات والزوايا: الخصوصية والانفتاح 

يبدأ الفصل الأول في الكتاب ببيت شعر لبير ألبير بيرو يقول فيه:

من هذا القادم يدق باب البيت؟

باب مفتوح، ندخله… باب مغلق، معتكف.

نبض العالم يخفق خلف بابي.

في الأدب، وحتى في العُرف العربي، نرتبط كثيرًا بالباب. مدخل البيت خصوصًا هو بوابة الضيافة والكرم، مفتوحًا أو مواربًا. لكنه أيضًا علامة واضحة على الرغبة في الخصوصية حين يُغلق، فلا يُفتح إلا باتباع آداب الاستئذان. القدرة البصرية على الدخول من الخارج إلى داخل البيت، وحتى التنقل بين الغرف ورؤيتها، هي دعوة صامتة لاكتشاف ذات صاحب المنزل بصورها ودرجاتها المختلفة. تناسخ الباب وتعدده في البيت الواحد دلالة على تدرج انفتاح الذات، ويدل انفتاحه الدائم على الاستعداد للكشف والانفتاح على الآخر.

 وعلى عكس الباب المتحكم في درجة انكشافنا، تأتي الزاوية كمخبأ للذات الأصيلة. يقول باشلار: “البيت هو زاويتنا في العالم، هو أول كونٍ لنا”، وأقول إن الزاوية في البيت هي محراب التأمل والانزواء إلى الداخل. الزاوية لم تُختر يومًا كمكان للعقاب في الطفولة عبثًا، فهي تفتح لك صفحة جديدة لمراجعة الذات كلما اقتربت منها. أيًّا كانت زاويتك المفضلة في بيتك وما يحيط بها، فلا شيء أجمل من رفع رأسك نحو السقف الفارغ لتتأمل نقطة التقاء أضلع ذاتك التي تصلك بالأصالة والصفاء.

القبو والعلية: نرتفع للآمال، وننزل للمخاوف.

     في فلسفة باشلار، العلية ليست مجرد مساحة مرتفعة تُكدّس فيها الذكريات أو تُخزن فيها الأشياء، بل هي رمز للطموحات والأفكار العُليا. إنها فضاء الخيال، العزلة الإيجابية، والتأمل العميق فيما نريد أن نكون عليه. الصعود إليها هو صعودٌ نحو الأحلام، نحو الذات المتطلعة لما فوق اليومي والمعتاد.

أما القبو، ففي عمقه تكمن جذورنا. هو مخزن الخوف، والمكبوت، والذاكرة الغامضة. لا نذهب إليه إلا عند الحاجة، لكنه موجود، صامت، كظلٍ لا يفارقنا. كل بيت يحتفظ بقبو رمزي، وإن غاب معماريًا، فإنه يحضر نفسيًا، يُذكّرنا بأن الأمان لا يتحقق دون مواجهة ما نخشاه. القبو ليس فقط مكانًا مظلمًا، بل هو أيضًا شاهد على صراعاتنا الداخلية، على ما نحاول دفنه بعيدًا عن النور.

وبين العلية والقبو، نتحرك يوميًا بين الوعي واللاوعي، بين الطموح والمخاوف، بين ما نُظهر وما نُخفي. فكل مستوى في البيت هو مستوى داخل النفس، وكل درج نصعده أو نهبطه هو خطوة نحو معرفة أعمق للذات. هذه الحركة العمودية – من الأعلى إلى الأسفل – ترمز إلى التدرج النفسي داخل الإنسان. وكل مستوى من البيت يستبطن طبقة من وعينا، أو من لا وعينا، ويمنحنا تلميحًا لمشاعرنا الخفية.

لكن كيف نعيش الآن وسط عالم من الصناديق المفترضة، والشقق الخانقة، التي لا تسمح لنا بالتحرك بين آمالنا ومخاوفنا؟ كيف نرتب أنفسنا داخل فراغات لا تمتلك لا قبوًا نكبت فيه مخاوفنا، ولا علية نحلم فيها بعيدًا عن الصخب؟ كيف نصل لما يصفه غاستون، “السكن الحقيقي هو حيث نعيش أحلامنا ومخاوفنا معًا.”؟

 

بيتك شاعرٌ صامت. علاقتك معه قد لا تُرى، لكنها تُحسّ. عالمك الصغير هذا لا يحتويك ويفضح من أنت فحسب، بل يعيد تشكيل ذاتك الداخلية في كل مرة تكون فيه. لا زلت غير مصدق؟ أصغِ جيدًا له، لا بالكلمات، بل بما يبثّه من إحساس، وما يحفظه من ذكريات.

12
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

الأصدقاء مصاصو الطاقة
23 كانون الثاني

|

العلاقات
وقت القراءة: 6 دقائق
منبع القناعات: لماذا نتأثّر بال”ترند”؟
31 كانون الثاني

|

المال والأعمال
وقت القراءة: 3 دقائق
تحليل الشك وأثره في أحكامنا
5 أيلول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 10 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً