خفتت أصوات التصفيق، وخفتت معها هتافات المباركة والدعاء بالسعادة ودوام التقدم والتفوق، وبدأت ابتسامتك الواسعة تنكمش تدريجيًا على وجهك وأنت تسترجع نجاحك الذي حققته أخيرًا، بعد سهر الليالي ووصلك لها بالنهارات، وأنت في سعي وكد واجتهاد، بلغت أخيرًا ما تمنيته، لكن بداخلك حزن لا تفهمه.
مرحبًا بك في حالة إكتئاب ما بعد النجاح.
نحن نُصدق العلم، والعلم يؤكد وجود إكتئاب ما بعد النجاح
تُفسر إحدى التدوينات العلمية سر الاكتئاب المفاجئ الذي يُصيب إنسانًا لامس منذ فترة بسيطة حلمه، فتقول إنه عندما نصل إلى إنجازات ضخمة ونجاحات مُعجزة، فإن أدمغتنا تُفرز الدوبامين، والمعروف أيضًا باسم “هرمون الإنجاز”، والدوبامين هذا يبدو صديقًا أليفًا ومُشجعًا؛ فكلما ارتفعت مستويات الدوبامين في أجسامنا، زاد تركيزنا وإبداعنا ويقظتنا وتركيزنا وذاكرتنا طويلة المدى، لكننا دون أن نُدرك قد نتحول لأسرى الدوبامين، الذي يتغذى على جهودنا في تحقيق الأهداف كي يمنحنا شعور المكافأة، وهنا يتجلى الجانب السلبي لهذا الصديق؛ فعندما نصل إلى هدفنا، تنتهي مهمته ويودعنا، وينخفض إفراز الدوبامين، ويصبح من الصعب علينا من الناحية الكيميائية والحيوية أن نشعر بنفس السعادة والحماسة التي كنا نشعر بها ونحن لا نزال نحلم ونسعى ونجتهد، وهذا يُفسر حالات (فقدان الشغف) التي نرى أصدقاءنا يعانونها ويتحدثون عنها عبر حساباتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي.
مغالطة الوصول
نؤجل الفرح بالمُنجزات اليومية، ونؤخر الاحتفاء بالخطوات الصغيرة، ونظن أننا سنكون أكثر سعادة لو حققنا هذا الإنجاز، أو أصبحنا ضمن فريق عمل هذه الشركة، أو نلنا هذه الترقية، أو حصلنا على تلك الجائزة؛ نستثمر كل مشاعرنا ووقتنا وجهودنا في هدف واحد، نُضخمه ونجعله محورًا لحياتنا، وننسى أنه في النهاية جزء بسيط جدًا من حياة شاسعة وفيرة بالأحلام، ومليئة بالأهل والأصدقاء، وبواجباتنا تجاه أنفسنا، حياة دافئة لا تنحصر فيها السعادة على مصدر واحد، ولا يقتصر فيها النجاح على شكلٍ واحد.
في مقالة منشورة في صحيفة نيويورك تايمز، يُشير الكاتب إلى مُصطلح (مغالطة الوصول)، على أنه: “وهم بأنه بمجرد أن نصل إلى هدفنا، أو نصل إلى وجهتنا، سنصل إلى سعادة دائمة”، ولكن كعادتنا البشرية، نحن ننسى أن الإنجاز لا يساوي السعادة بالضرورة، فنُؤجل كل مشاعرنا للحظة بلاغ مُنتظرة، ونُفاجىء رُغم سعادتنا بالفعل إنها لم تكن تستحق كل هذا التوحد فيها، فنشعر بشيء من الخواء ونتساءل: هل هذا كل شيء؟ وهذا التساؤل يأخذنا إلى حقيقة أننا كبشر قادرين على تحديد الأشياء التي قد تجعلنا سعداء، لكن من المستحيل علينا التنبؤ بمدى تأثيرها الحقيقي علينا. ولهذا كثيرًا ما نُصاب بالإحباط بعد تحقيق نجاح كبير، لأننا كنا نتوقع فرحًا عظيمًا، وإذا بفرحنا يأتي عاديًا، وأقل كثيرًا من توقعنا.
الضغط هو الوجه الآخر للنجاح
“منها للأعلى”، عبارة نقولها ونحن نُبارك نجاح صديق أو زميل أو أخ، ولو تأملناها سنجد أنها توقع منطوق معناه: نحن نبارك هذه الخطوة، ونتوقع منك المزيد من الخطوات الأكبر. طبعًا يجب ألا نأخذها على هذا المحمل، لإنها تُقال فعلًا بنوايا طيبة، ومن ناحية أخرى هي تحمل معنى أنها أمنية ودعاء بالمزيد، لكن حتى التمني فيه توقع، وهذا يأخذنا مجددًا لتساؤل آخر: هل يجب أن نقلق من توقعات الآخرين الطيبة لنا؟
يتحدث الناس عن ضغط عدم النجاح، لكن قلة من يتحدث عن ضغط النجاح، وكيف قد يقع الإنسان بعد نجاحه أسيرًا لأفكاره عن نفسه وتطلعاته التي ازدادت، وتوقعاته التي ارتفع سقفها، فيبدأ بالتفكير المستمر في كيفية الحصول على المزيد، ومن هنا يبدأ معه القلق الذي يأكل راحته، وربما يقضم ببطء موهبته وكفاءته، وقد يزداد ضغطه على نفسه مع تتبعه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لقصص النجاح المستمرة والخارقة لمن هم في نفس تخصصه، أو مع عبارات الإشادة والثناء التي يحصل عليها من الآخرين، والتي تُعبر عن توقعاتهم العالية منه وهنا تتحول سعادة الوصول لحزن وإرهاق، وركض لا ينتهي من أجل الظهور بمظهر لائق، فيفقد النجاح معناه الحقيقي، ونفقد جزءًا من أنفسنا.
فك قيدك وانطلق
ليس من المعقول أن تستسلم للاكتئاب وأنت في أسعّد لحظات حياتك، لأنك تضغط نفسك بتصوراتك عن النجاح وتوقعات الناس منك، تقبل الضغط وحوله لطاقة تدفعك للتعلم وفك وثاق حزنك وانطلق، وضع في اعتبارك أن النجاح مسعى طويل الأمد، وقد يمتد بامتداد الحياة كلها، فما لم تحصل عليه اليوم قد تحصل على ما هو أعظم منه غدًا، وأن صورتك الذهنية المعتدلة عن النجاح وعن نفسك ستساعدك كثيرًا في الوصول لأهدافك بجهد موزون، وستضمن لك سعادة موزونة لا تنقلب اكتئابًا أو قلقًا، وأن النجاح لا يقتصر فقط على الوظيفة أو الدراسة، فعلاقتك الطيبة بعائلتك وزملائك وأحبائك نجاح لا يقل أهمية عن نجاحك الدراسي وترقيك الوظيفي، وإن داهمتك الأفكار السلبية وحاصرتك المخاوف أطردها بتركيزك على نموك وازدهارك، تعلم أكثر، ولا تنس أن الناس للناس؛ فلا بأس أن تستشير مديرك، أو من هم في نفس تخصصك، ولا بأس أن تطلب منهم تقييم أدائك، كي تقيس مدى تقدمك ولتعرف نقاط قوتك ومواطن ضعفك فتعمل عليها.
وتذكر أن لا تستعجل؛ استمتع بالمسير وبكل خطوة، وكل استراحة توقف، واستمتع بالمخاطرة فلولاها لما اكتملت خبرتك.