الإنسان كائنٌ عجيب، لا يغادره الأمل حتى في أقسى اللحظات وأكثرها سوداوية، ولا ينحدر إلى القاع إلّا وهو يتشبّث بخيط خفيّ من المعنى. وحينما توصد الأبواب كلّها في وجهه، ولا يجد ملاذًا يخفّف عنه بؤسه ووحدته يلجأ إلى اللّغة، والقصيدة، والكلمات. يعلم أنّ الليل لا يكفيه ليبكي مرّتين، أو يحلم مرّتين، لكنّ الكتابة تكفيه دهرًا ليكشف عن جراحه، ويعرّي عن قلبه، ويوغل في حرق يقوده إلى ما هو أبعد من آلامه. كيف يضمّد الأدب جراحنا؟ حينما يتحدّث عن دواخلنا ويكشف ببراعة عن أعماقنا. تعالوا آخذكم في رحلة قصيرة مع كافكا ودوستويفسكي، أديبان غاصا بعمق في أنفسنا، وتركا لنا العزاء في حكاياتهم.
فرانز كافكا: صرخة داخل غرفة مغلقة
تعبّر أعمال الكاتب التشيكيّ “فرانز كافكا” عن ذلك الصّوت المنكسر الخافت في دهاليز النفس الإنسانيّة، وهي ترجمة قويّة لحالة التشظّي والانحدار نحو القاع التي قد يصل إليها الإنسان في مواجهة العالم. ولا ريب أنّ كتاباته تسير أحيانًا نحو اللامعقول، واللاجدوى، والعبث، لكنّها كذلك تصوير عميق للظلال الكامنة في دواخل الإنسان، ومحاولة للنفاذ إلى طبقات متراكمة مكبوتة في أقصى نقطة داخله، وهو القائل: “الكاتب يجب أن يكون الفأس التي تكسر بحر الجليد فينا”.
حينما تقرأ لكافكا، تتولّاك -تلقائيًّا- عاطفة حزينة لا تدري من أين نبعت، وتشعر بالتعاطف معه. هذا الشّعور العميق بالتقارب معه ليس مجرّد صدفة، بل هو نابع من قدرة كتاباته العجيبة في أن تجعلنا نلمس غربته كأنها غربتنا، ونشعر بذنبه وقلقه كأنهما جزء من وعينا نحن؛ لأنّ تجربته الأدبية بكلّ تمزّقاتها أصبحت صورة مكثّفة لما يعيشه الإنسان المعاصر.
كافكا حالة وجوديّة منفردة، مزيج عجيب من الفشل والضياع واحتقار الذّات، مقابل الرغبة القويّة في أن يحصل المرء على مكانه الحقيقيّ الذي يستحقّه والشّعور الرّهيف بالحبّ والحاجة إلى الدفء كما أنّ أسلوبه في السّرد القصصيّ يتجاوز حدود المعقول إلى اللامعقول، ويدمج بين بساطة النواة القصصيّة، وعمق المعاني؛ فهو يستهلّ مثلًا روايته الشهيرة: “المسخ” بقوله: “استيقظ الموظف «جريجور سامسا» في صباح أحد الأيام، ليجد نفسه قد تحوَّل إلى حشرة ضخمة”.
هكذا بكلّ بساطة، يستعين برموز غير معقولة، ولا ينشغل بتفسير استعمالها، ولا يقف عندها أصلًا، لكنّه يلجأ إليها ليفسّر مشاعره وغربته وقلقه، ويصف القفص الحديديّ الذي سجن فيه “جريجور سامسا” حينما اختزلت قيمته في وظيفته، ولم يعد يعني لعائلته أو مجتمعه أو نفسه شيئًا بعد فقدانه القدرة على آدائها. ولذلك يقول روجيه جارودي معلّقًا على الرواية: ” إن المسخ لم يكن مجرد حشرة قذرة ولكن انعكاس الحياة المادية القاسية واستعباد العالم للإنسان العامل في ظل نظام رأسمالي يتجرد من الإنسانية، ومن كل صفات بني البشر.”
لم يكن كافكا -على خلاف ما يروّج له- يكتب من فراغ عبثيّ، أو دون هدف محدّد، هذا -في نظري- حكم جائر اتّجاه رجل حاول أن يعبّر عن عمق مأساة الإنسان في عالم معقّدٍ لا يُفهم. كان كافكا ناقمًا على المؤسسة الرأسمالية، على البيروقراطية التي تتعامل مع البشر كأرقام وبيانات وعلى هشاشة العلاقات الإنسانية، وعلى معاناته من ظلم أبيه واحتقاره له منذ الصغر، وكان جائعًا للحبّ في رسائله إلى ميلينا. في مكتب التأمين ضدّ الحوادث في براغ، قضى كافكا سنواته موظفًا تمرّ أمام عينيه مئات الحالات البائسة لعمّال مرضى بالسلّ، وآخرين فقدوا أطرافهم، وجنود تنتابهم الكوابيس. لم تنجم أحاسيسه المرهفة عن الفراغ، كان يعاين المأساة الإنسانية بعينيه، واكتشف أنّ كلّ من يحاول العيش خارج هذا النظام المفروض لا بدّ وأن يجد نفسه وحيدًا، منبوذًا خارج المعادلة.
في روايته “القلعة”، يحاول بطلها “ك” الحصول على عمل رسميّ في قرية تحكمها القلعة الغامضة، لكنّه يواجه سلسلة من العراقيل والبيروقراطية التي تمنعه من ذلك، وتحجب عنه صاحب السلطة الرئيسيّة، محاولًا ببراعة أن يصف قوة الأنظمة السلطوية في التحكّم بنفسيات الأفراد واحتقارها والتلاعب بها. في “المحاكمة”، يجد المصرفيّ جوزيف نفسه متّهمًا بجريمة لا يعرف ما هي، وقد حاول كافكا من خلالها نقد النظام القانونيّ الجائر والحكم المتسلّط؛ إذ لا يوجد ما هو أشدّ على الإنسان في هذه الدنيا من أن يتّهم ويعاقب لشيء لم يفعله، وأن تنسب له التهمة جرمًا.
لقد حاول كافكا من خلال كتاباته أن يجد خلاصًا من كل هذا الظلم، ثمّ استسلم إلى أنّ الخلاص الوحيد هو التقبل والرضى. عندما تقرأ لكافكا تشعر تلقائيًّا بعاطفة حزينة جدًا، وللمفارقة ستشعر كذلك بطمأنينة غريبة، كلّ شخص ما سيلتمس في رواياته جانبًا واحدًا على الأقلّ يشبهه ويحكي عنه.
أنظر له مثلًا وهو يكتب لوالده الذي كان قاسيًّا جدًّا معه: “كل ما كنت أبتغيه في طفولتي، هو قليلًا من الحب وقليلًا من التشجيع وقليلًا من الصداقة، ولكن للأسف لم أنل أيًّا منها منك. الشيء الذي لم أفهم سببه أبدًا، هو عدم إحساسك بما كنت أعانيه من آلام وخزي، بسبب توبيخك الدائم لي وأحكامك الظالمة علي”، القراءة لكافكا ستجعلك تعترف بألمك أولًا، ثمّ تفهمه وتستوعبه، وهذا كفيلٌ بأن يعزّيك قليلًا ويخفّف عنك.
فيودور دوستويفسكي: مشرط النفس الإنسانية
كان الروائي الرّوسي فيودور دوستويفسكي مولعًا بالإنسان، شغوفًا بالحديث عن ذاته في كلّ أطوارها، في خلجاتها وسكناتها، وخطيئتها وطهرها. وكان جرّاحًا بارعًا يجيد حمل المشرط ليشقّ أغلفة النّفس ويظهر ما تكدّس داخلها من خوفٍ وحبّ وبراءة وإثم. ولم يكن يفعل ذلك من عبث، فقد كان هو بشخصيّته، متجسّدًا في أبطال رواياته، يتفاعل معهم ويحكي رواياتهم كأنّما يروي عن نفسه.
وقد كانت تجربة دخوله إلى سجون سيبيريا المهولة بتهمة الخيانة، ومواجهته لحكم الإعدام ثم نجاته منه في اللحظات الأخيرة، وقضاؤه لأربع سنوات من السجن والأعمال الشاقة، وفقدانه لزوجته وابنته، وتفاعله مع المشاكل البائسة التي حدثت في القرن التاسع عشر في روسيا كفيلة بأن تجعل منه روائيًّا، وفيلسوفًا وعالم نفسٍ، وصديقًا حميمًا للقارئ الذي يجد الكثير من أجوبة أسئلته بين صفحات كتاباته. الكتاباتُ التي تحاول دومًا أن تضع قارئها أمام هشاشة النفس الإنسانية، وعجزها وبؤسها.
يقول بوريس بورسوف في كتابه: “شخصيّة دوستويفسكي”: “مع دوستويفسكي، لن نشعر أبداً بالملل من التجوال في جميع الزوايا، حيث كان يتجول الفكر الإنساني والنفس البشرية طيلة مئات السنين، بحثاً عن أجوبة طُرحت وسوف تُطرح إلى الأبد أمام جميع الأجيال، التي عاشت ذات يوم، والتي سوف تعيش في أي وقت على هذه الأرض”، لقد كان بارعًا في الحديث عن الإنسان ومأساته، لا يفعل ذلك من برج عاجيّ، بل ينفذ إلى الأعماق الحقيقيّة التي يشعر بها أيّ واحد منّا، ولذلك كان كافكا يصفه بأنّه أحد أقربائه الفطريين.
يحاول دوستويفسكي أن يبعث النّفس الإنسانية من مواتها، أن ينفذ بسلاسة نحوها ويخرجها من ذلك الانغلاق المحكم الذي تكمن فيه، لكنّه لا يفعل ذلك عبر الوعظ والمثاليات، هو يؤمن أن الإنسان مجبول على النقص والخطأ، ليس ثمّة فيه شر محض ولا خير مطلق، وهذا ما نستشفّه بقوة في روايته الأشهر “الجريمة والعقاب”. دوستويفسكي يعرّي النفس على نحو مختلف، عبر تمريرها في أتون الخطيئة، والوقوف عند ندوبها العميقة. في عالمه، لا شيء يبدو خالصًا.
في فيلم جميل بعنوان The painted veil، تتحدّث البطلة مع زوجها عالم البيولوجيا الذي أطلق عليها -بحسب ظنّها- أحكامًا قاسية ورفض مغفرة خطيئتها، قائلةً: “نحن البشر أكثر تعقيدًا من مجهريّاتك السخيفة، نحن متقلّبوا المزاج، نقوم بالأخطاء ونخيّب الآمال” وبعيدًا عن تبرير جميع الأخطاء والجرائم بسبب النقص الإنسانيّ، لكنّ كلامها جعل الدموع تتجمّع في عينيّ وذكّرني مباشرة دوستويفسكي وأدبه، خاصةً في ظلّ ثقافة الأحكام الجائرة والمقصلة المنتشرة في مجتمعاتنا والتي تخرج الإنسان من الفطرة الخطّاءة النسّاءة التي خلقها الله عليها، إلى كمال مزعوم ووهمٍ لا وجود له.
روايات دوستويفسكي ليست بحثًا عن ملائكية مستحيلة، بل اختراق جريء لطبقات الوجود الداخلي، حيث لا خلاص إلا بالمرور في العاصفة. وهو في كل ذلك لا يسعى لتقديم أجوبة، بل لفضح الأسئلة، والأسوأ من ذلك: أن نكتشف أننا نحن أيضًا نطرحها. يقول ستيفن زفايج: “الأداة التي تسمح لدوستويفسكي بالتغلغل بمثل ذلك العمق في الإنسان هي كلمة. دوستويفسكي رًجل آذانه. عليه أن يسمع، وأن يجعل شخصياته تتحدث حتى نحس بوجودها”.
في الختام، كان بودّي كذلك أن أتحدّث باستفاضة عن الرافعيّ، وبورخيس، وجوزيه ساراماغو، وجبران خليل جبران وكل أشعار أبي القاسم الشابيّ وهو يصدح: سأعيش رغم الداء والأعداء، لكنّ الوقت ضيق والمجال لا يتسع لذلك. شاركونا في التعليقات اسم الأديب المفضّل الذي تضمّد كتاباته جراحكم، وابقوا بخير.


