جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

أزمة الشعور باللاّجدوى وانعدام القيمة

يرى ماكس فيبر أنّ الإنسان أصبح مدموجًا بشكل تلقائي في النظام الاقتصادي لهذه الحياة، وبعد أن كانت حياته مفصولة عن وظيفته، أصبح العمل هو ما يحدد قيمته. وهو ما يظهر جليًّا في كيفية تسويق الشركات الرأسمالية للعمل على أنّه شغف المرء ومركز حياته وأولويّته.
وقت القراءة المتوقع: 8 دقائق
[gpd]

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

بدعم من

في عالم مضطرب وشديد القلق، يخوض المرء حربًا يوميةً طاحنةً مع الكثير من المشاعر والهواجس التي تفرضها عليه متطلّبات الزمن وتطلّعاته، أهمّها ذلك الشعور الدّائم باللاجدوى وانعدام القيمة والدونية، وأنّه لا مكان له في سلم الحياة الاجتماعية. وقد بات هذا الشعور أشبه بموضة العصر ولا يكاد يوجد شخص لم يتعرض ولو للقليل منه. مع الوقت، يوّرث هذا الشعور عجزًا نفسيًا يمنع الإنسان عن القيام بأي شيء، وقد يتحول إلى اكتئاب. دعونا نشكل معًا رابطة “الشاعرين باللاجدوى والفراغ”، ونحاول البحث عن دوافع هذا الشعور وأسبابه وهل يستحق منا كل هذا العناء؟ 

من أين يتولّد شعور الدّونية؟ 

ينتج الشعور بالدونية وانعدام القيمة انطلاقًا من حاجة فطرية في الإنسان لأن يُنتبه له، ولما يفعل، وألا يكون مجرد ظلٍّ من دون أثر. ويتفاقم هذا الشعور خاصةً في لحظات مفصلية من حياته، كالفراغ الذي يخيم على فترة ما بعد التخرج، وأثناء مرحلة البحث عن عمل، أو العمل في مجالٍ لا يقدره كما ينبغي، أو التعرض لنكسات مادية أو مجتمعية تخلق داخله شعورًا بالعجز والحزن. ويُرجع آلان دو بوتون في كتابه: “قلق السعي إلى المكانة” السبب الأول لهذا الشعور إلى رغبة محمومة عندنا في أن نكون محبوبين من طرف الآخرين، وإلى أهمية آراء الناس المحيطة بنا. فالأنا تتغذى بشكلٍ متواصل على مديح الآخرين وتعليقاتهم، وكل إهمال أو احتقار أو لامبالاة هو بمثابة إحداث ثقب مريع في جدار القيمة الذاتية. 

يقول وليم جيمس في كتابه “مبادئ علم النفس”: لا يمكن ابتكار عقاب أشد شيطانية، من أن ينطلق المرء ساعيًا في المجتمع من دون أن يُلاحظه أحدٌ بالمرة. إن لم يلتفت أحد عندما ندخل مكانًا، وإن لم يجبنا أحد عندما نتكلّم، أو لم يعبأ أحد بما فعلنا، ولكن إذا ما تجاهَلَنا كل شخص «كأننا موتى » وتصرف كما لو كنا كائنات لا وجود لها، فسرعان ما يتصاعد داخلنا نوعٌ من الحنق واليأس العاجز” فالفرد الذي لا يجد استحقاقًا وشعورًا بالقيمة من وسطه ومن المقربين منه -لسبب أو لآخر- إذا لم يكن ذلك محفّزًا له للبحث عن فرص أفضل والانشغال بتطوير ذاته بعيدًا عن آراء الآخرين، فإنّه غالبًا ما يحول شعوره الخارجي بالقهر والخيبة والاحتقار إلى شعور داخلي أشبه ببركان يدمر ذاته من خلال لومها والانتقاص منها، وتشويهها. وهو ما يؤدي بدوره إلى فقدان القدرة على فعل أيّ شيء، وصولًا إلى الشعور بالدونية والإصابة بالاكتئاب. 

غير أنّ الشعور بالقيمة انطلاقًا من آراء المحيطين بنا، تفاقم ليصبح أشبه باستجداء التعليقات الإيجابية منهم وتوسلّها بشكل مجنون خاصةً مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وتوسع العيش في الواقع الافتراضي وانحسار الحياة الحقيقية أمامه. ووفقًا لدراسة أجراها مجموعة باحثين في مجلة  “Journal of Adolescent Health” فإنّ حوالي 56.3% من الدراسات تظهر ارتباطًا وثيقًا بين وسائل التواصل الاجتماعي وارتفاع مستوى القلق والضغط، كما ربطت 75% منها بين الاستخدام المفرط للشاشة، والارتفاع المفرط للقلق. 

ويتجسد ذلك بشكل بارز في نوعية المحتوى الذي أصبح شائعًا في وسائل التواصل -خاصة انستغرام- الذي يجعلك تشعر أنّ كل الناس أفضل منك، ويجعلك تعيش في حياة الآخرين أكثر من حياتك، تسافر مع المؤثرة الفلانية إلى مدغشقر، وتشهد مراسم تخرّج أخرى من جامعة كامبريدج، وتتفاعل مع ثالث في رحلة التطوع نحو إفريقيا، وتشهد فتح رابعة لمشروعها الخاص، ثمّ تغلق الهاتف وتنظر إلى نفسك فتعتقد أنّك في الحقيقة أدنى من كل هؤلاء وأنّك لم تفعل شيئًا في حياتك. ضخٌّ مستمر وممنهج لا يدفع نحو الأمل والتقليد الايجابي، بقدر ما يحصر النجاح والقيمة الذاتية في أنماط معينة يحددها مؤثرو السوشيال ميديا. يقول عالم الاجتماع البولندي “زيجمونت باومان”: “إن محادثاتنا على الانترنت والهواتف والرسائل النصية على مدار 24 ساعة تعمل على استبدال تأمل النفس بتفاعل تافه مسعور”. 

اتبع شغفك وأثبت ذاتك واعمل حتى الاحتراق! 

لقد ضخمت الحياة الحديثة بدورها من مفهوم الاستحقاق والمكانة، وربطت المكانة المادية والوظيفة بقيمة الإنسان حتى أصبح لا يستمد قيمته إلّا من خلال العمل. ولذلك، نحن نسعى بدون توقف للحصول على أعلى المراتب الأكاديمية، والعمل في أفضل الشركات والمكاتب، وجمع أكبر عدد ممكن من الشهادات والدورات لإثراء السيرة الذاتية لأنّ كلمة دكتور بالنسبة لنا، ونظرة النّاس إلينا هي ما سيحصّننا من الوقوع في فخ الشعور بالدونية واللاجدوى، كما ارتبطت هوية الإنسان وتعريفه لنفسه بمهنته. جرب أن تسأل شخصًا مقرّبًا من أنت؟ غالبًا سيتضمّن جوابه بعد اسمه وعمره مهنته وما يفعله خلال عمله. 

كما أنّ وجود شعارات مثل: “اتبع شغفك”، و“أثبت ذاتك”، و“اعمل بجدّ لتحقق أحلامك”، “ارسم مستقبلك بيديك”، “كن قائدًا لا تابعًا” وانتشارها بشكل مسعور جعل قيمة الإنسان مسطّرة وفق رسم واضح: أنت = سيرتك الذاتية، كلما كانت غنية بالتجارب والشهادات وأماكن العمل ازدادت قيمتك، وإلّا فمرحبًا بك  في صفوف الخاملين الكسالى. هكذا تعامل الحياة الحديثة الناس، كأنهم فئران في ترس يدور دون توقّف، من أجل ضخّ عملية الإنتاج، والبقاء في سباق مستمر. قد يشعرنا ذلك طبعًا بالفخر والجدوى والإنجاز، لكنّه يجعلنا بالمقابل نعاني ممّا يسمى ب“الاحتراق الوظيفيّ” – Burnout، الذي يصيب أكثر من 48% من الموظفين وفق دراسات أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية. 

لذلك يرى “ماكس فيبر” أنّ الإنسان أصبح مدموجًا بشكل تلقائي في النظام الاقتصادي لهذه الحياة، وبعد أن كانت حياته مفصولة عن وظيفته، أصبح العمل هو ما يحدد قيمته. وهو ما يظهر جليًّا في كيفية تسويق الشركات الرأسمالية للعمل على أنّه شغف المرء ومركز حياته وأولويّته فوق كل شيء آخر: العائلة، والصحة النفسية، والعلاقات الاجتماعية، والعقائد الدينية. يسمّي الفيلسوف الألمانيّ “هربرت ماركوز” هذا الإنسان “بالإنسان ذي البعد الواحد” الذي يعيش فقط من أجل تلبية متطلبات النظام الرأسماليّ وتوقعاته الإنتاجيّة. وهو إنسان واقع بين فكي كماشة، قد ينجو فعليًّا من الشعور بالفراغ ومن الاكتئاب الناتج عن انعدام القيمة، لكنه يقع في فخ الإرهاق وانعدام التوازن في الحياة، وفي طريقه نحو السعي المرضيّ لإثبات ذاته والترقّي في منصبه والكسب الماديّ قد يخسر الكثير من الأشياء الجميلة حوله. 

كيف نتخلص من هذا الشعور؟ 

أؤمن أنّ أول خطوة نحو الانفكاك من هذا الشعور الذي فرض علينا فرضًا وفق توجيهات عالمية ومجتمعية لا معنى لها هي التركيز على مسألة تربية النفس وتزكيتها روحيًّا والعيش مع المعاني التي تحتفي بأخلاق الإنسان ومقوّماته وثوابته قبل كلّ شيء آخر. يقول “سفيان الثوريّ”: “إذا عرفت نفسك، لم يضرّك ما قيل فيك”، وكان السلف الصالح يقولون: “من عرف نفسه، لم يغتر بثناء الناس عليه” ، أن تفقه نفسك أولًا وتكون واعيًا باحتياجاتها، وقناعاتها وأفكارها هو ما يشكل حاجزًا مانعًا بينك وبين نظرات الآخرين ومؤشراتهم التقييمية التي تنشغل بإصدار الأحكام أكثر من السعي نحو التطور للأفضل. 

عدم توظيفك في إحدى الشركات العالمية، أو تعطل حصولك على عمل بعد التخرج، أو عدم امتلاكك للمال الكافي من أجل شراء سيارة هو في الحقيقة جزء صغير من رحلة السعي في هذه الحياة. هذا ما يجب أن نردده على أنفسنا دومًا، أن نفعل ما بوسعنا -دون احتراق أو تسخط- ثمّ ننشغل بمراقبة خطة الله لنا، وهو ما يخفّف من وطأة الشعور باللاجدوى التي قد تداهمنا  في أي فترة من فترات حياتنا. الركون إلى الرضى، والسّكينة والاستسلام لله هو حتمًا أفضل الحلول لنزع هذا الشعور الجاثم على قلوبنا، ثمّ الانشغال وملء الوقت قدر الإمكان بأشياء نافعة: هواية، دراسة، تجربة (بشكل معقول وهادئ، وليس بالشكل المسعور الذي نعرفه) حتى لا تكون هناك ثغرة تنفذ من خلالها هذه الأفكار السلبية التي تجعل داخلك يتآكل. 

يقول آلان دون بوتون في كتابه: “قلق السعي إلى المكانة”: “أما عندما ينبذ الإيمان بحياة أخرى بصفته مخدّرًا صبيانيًا، فسوف يتعاظم بلا شكّ الضغط من أجل النجاح والإشباع، نظرًا لاعتقاد المرء بأنّه لا يملك إلا فرصة واحدة للقيام بذلك، وهي تتسرب من بين أصابعه بوتيرة مخيفة” والإيمان في الحقيقة هو الذي يهوّن علينا أي شعور قاهر أثناء الفشل، أو التعرّض للمحن، أو الفقد، وهو ما يكسب الإنسان حصانة ذاتية ومناعة روحية تعينه على تجاوز الأيام بمرها، ولا تحصر قيمته ونجاحه فقط في الوظيفة، أو السيارة، أو الحياة الدنيا. لأنّ ثمة حياة أخرى تنتظر ما تفعله من خير لأجلها، وتسجّل كلّ ما فعلته: الابتسامة في وجه الآخرين، وإغاثة المنكوبين، وبرّ الوالدين، وزرع بذور الخير في كلّ مكان، وهو ما يجعل لك قيمة ومعنى أفضل بكثير من القيمة التي تحصلها بالمكانة الاجتماعية والمادية، فلماذا انحصرت هذه المفاهيم وغابت عن إدراكنا يا ترى؟ 

الخطوة الثانية هو أن تدرك أنك لست في سباق مع أحد. هذه الجملة نمطية ونسمعها كثيرًا لكنّنا للأسف لا نطبقها. أنت لست مضطرًّا لتبرهن أي شيء للآخرين، ولست في منافسة محمومة على المناصب الأولى. تقول فاطمة رحيم: “لا أجيد المنافسة، ستجدني دومًا في الطرق الخالية، أتسابق مع نفسي التي كنت عليها بالأمس، عيني لا تلمح غيري” والسياق هنا يتعلق بشكل كبير بمسألة المنافسة في الماديّات، والانشغال بمقارنة حياتنا بحياة الآخرين ممّا يورث ذلك الشعور بالدونية، أما التسابق مع الآخرين في مجال الأخلاق، والمبادئ الطيبة وكلّ ما يثري النفس الإنسانية -لا إتلافها- فهو محمود بكل تأكيد. 

دعونا نتذكر دائمًا أنّنا أناس ولسنا آلات مدرجة في سباق لا ينتهي، ممّا يعني أن تجربتنا الفردية جميلة ومميزة بمختلف تفاصيلها، ولسنا مضطرين أن نكون على مقاس المجتمع لنحتفي بأنفسنا، ونعطيها حقها من التقدير. ودعونا نتأمّل هذه الآيات من سورة العصر: “إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)” ذلك أنّ الإيمان والأخلاق والأعمال الصالحة بمختلف تجلياتها هي في الحقيقة ما يحدد فوز الإنسان أو خسارته، لا وظيفة في  شركة عالمية ولا سيارة من آخر طراز. 

27
1

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
4 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن التشافي
فالحزن غالبًا ما يكون دافعًا لتغذيةِ تجربةِ الإنسانِ وتكوين صورةٍ مغايرة لعمله الإبداعي، وتجريد انتمائه الذهني من متعلقاتِ الجذور والترسبات المضطربة.

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق

ثنائية الحزن‏‏‎ ‎والشغف

عن المدينة
يُدخلك المكوث في المدينة صراعات داخلية لا تنتهي إلا بتطوير مزيج من الشيئين مع عاطفة أقوى في تفهم الجميع واتخاذ قرارات مرنة لا تتأثر بصفعات أهل القرية أو نظرات أهل المدينة.

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق

حين تعيش بين عالمين

عن التطوير الذاتي
إن خبايا الإنسان ونفسه البشرية هي من أعقد الأشياء في هذا الكون، فحتى محاولتك لفهم نفسك ستدخلك في متاهات ومواقف وأشخاص وحتى ذكريات تتصل بماضيك البعيد لن تعرف الخروج منها

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق

عدّة أوجه لعملة واحدة

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً