تحكي القصة الصينية القديمة
عن أمٍّ فقدت ابنها الوحيد، وقد ذهبت الأم وقد غلبها الحزن إلى معلم روحي تسأله تعويذةً تعيد الحياة لابنها، فأرشدها المعلم أن تطوف في القرية بحثا عن بيت لم يعرف سكانه الحزن، وأثناء بحثها عن ذلك البيت، ذهبت المرأة إلى الأكواخ والقصور، وكانت تسمع مرةً بعد أخرى قصصا عن الحزن وسوء الحظ، فانشغلت بالاستماع إلى أحزان الآخرين ومد يد العون إلى درجةٍ ذابت معها أحزانها.
يورد هذه القصة الطبيب النفسي ت. بيرم كرسو في كتابه سكينة الروح معلّلا ما حدث بقوله أنّ مواساتها للآخرين ومشاركتها العاطفية معهم بدلا من انكفائها حزينةً في عزلة هو ما جعلها تعيش حياة الجماعة عوضًا عن حياة الفرد؛ وذلك هو الذي بصّرها؛ أن الأحزان والمسرات تصيب جميع الناس حقًّا.
مثل هذه القصة وغيرها يجعلنا نتساءل بجدية:
ما الذي يمكن أن يمنحه لنا الانتماء؟
يقدم لنا الانتماء الشعور بالآخرين، يخفف من الانشغال بأفكارنا التي تحوم حول ذواتنا، وينقلنا من رثاء الذات إلى الإحساس بالآخرين، ولكن لوهلة قد يبدو وجودنا في أحزان ومسرات الآخرين مربكًا ومعقدًا لمشكلتنا وحزننا؛ إلا أنه يقدم وسيلة بديلة للمعاناة نتجاوز بها آلامنا الخاصة.
ويمكنني أن أشبه أثر الألم في ظل وجود انتماء إلى المجتمع بمختلف دوائره الاجتماعية، بأثر رمي حجر في بحيرةٍ بدلًا من وعاء؛ سيمتد الأثر في دوائر متبدِّدًا متلاشيا في ذلك الحيز الواسع، بينما يضطرب وعاء الفردية من وقْع المعاناة حين تقع في حيز الوحدة.
ولكن المفارقة الجديرة بالذكر والتي وجدتها في دراسة لكودي ديليستراتي، أن اختيار المرء للانتماء قد لا يكون اختيارًا محضًا لأجل الانتماء ذاته بل ينطلق “دافع الانتماء” نتيجةً هروب من نوبة وحدة؛ حيث ترغم المرء بيولوجيًّا على إعادة الاتصال مع الآخرين بمجرد وصوله عتبةً من الشعور بالوحدة تختلف من شخص لآخر وفق ما تشير نتائج كوالتر، وذُكر أنه يمكن أن يحصل هذا الإرغام البيولوجي والذي يجبرنا أن نعيد اتصالنا بالآخرين في أي مرحلة من مراحلنا العمرية ليجعل ذلك من تجربة الوحدة التي نمر بها تجربةً عابرة غير مستمرة.
وبعدم وجود “دافع الانتماء” هذا لدينا سنكون وحيدين!
نعم وحيدين لكن دون الرغبة بالهرب من وحدتنا، دون وجود مشاعر مؤلمة وحيوية في ذات الوقت، وهذا يعني فقداننا جزءًا أصيلًا من كينونتنا وهو أن نكون إنسانًا يأنس بوجوده مع الغير.
وتورد دراسة كودي ديليستراتي أيضا قول جون كاتشيبو:
“الأشخاص الذين لا يستطيعون أن يكونوا وحيدين هم الأكثر تعرضا لأن يكونوا مضطربين عقليا”
حيث يحدث ذلك حين تضمحل النفس بوجود وفرة ضاغطة من الأعمال والمعارف والأشخاص والتي تفردُ بضغطها هذه النفسَ لتتشكل بشكل رقيق جدًّا إلى حدِّ تلاشي هويتها فتكون ذاتًا مهلهلةَ النسيج!

يصدق فيها قول الشاعر محمود درويش:
كأنني شبح
يمشي إلى شبح
فلا أكون سوى شخص مررت به
خرجت من صورتي الأولى
لأدركه
فصاح حين اختفى:
يا ذاتي انتبهي!
أو تكون ذاتا مغتربة غريبة تشبه قوله أيضا:
وكُلَّما فَتَّشْتُ عن نفسي وجدتُ الآخرين.
وكُلَّما فتَّشْتُ عَنْهُمْ لم أَجد فيهم سوى نَفسي الغريبةِ،
هل أَنا الفَرْدُ الحُشُودُ؟
وسيجد المرء دوما –ما دام في دائرة التأثير والتأثر- أنه قد يغير ويتغير بالقدرِ الذي قد لا تظل معه هذه الذات هيَ هي، ولينتهي به الأمر إلى اغترابِ ذاتهِ عن العالم وتماهي هويتها، أو بقائها آسنة في مياهها الراكدة، وحينئذٍ سيكون الفرد في مفترقٍ طرق ككل مرة نحو التماهي مع ما يواجه، أو نحو ممانعة هذا التماهي بكل ما يمكن من سبل الممانعة؛ مما يعني أن هذا التغير والاغتراب بصورتهِ المتكررة ما هو إلا مكون أساسيٌّ من مكونات الوجود، والذي لا ينفكُّ عنه بحالٍ من الأحوال.
وبين الحين والآخر،
ومن أجل أن نحافظ على ذواتنا كذواتٍ أصيلة؛
لا بدّ أن ننساب من ضوضاءَ الحشود مُصغين إلى صوت الذات، متعرّفين على إيقاع الحياة الملائم لها، وأنّ ننسكب باستمرار جيئةً وذهابًا من وإلى أوعيةِ ذواتنا، محافظين على مسافات الانفصال، مبقين على جسور الاتصال، بين ضفة الأنا وبين ضفة العالم.