جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

حنين اللحظة الحالية

يمكن القول بأننا نصاب بالحنين الاستباقي اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب تسارع رتم الحياة الذي جعلنا على يقين تام بأن اللحظة الراهنة ستمضي بسرعة خاطفة كغيرها من اللحظات

وقت القراءة المتوقع: 10 دقائق
[gpd]

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

بدعم من

للاستماع للمقالة

بصوت:

محمد خوجلي

00:00 / 00:00

 لطالما ارتبط الحنين بالزمن الماضي وما يحمله من أحداث وأشخاص وتجارب عشناها، ولكن في عالمنا الحديث شديد التسارع، حيث يذوب الحاضر دون أن نستوعبه، ونعيش فيه مع إدراكنا الكامل بزوال اللحظة دون أن ندركها بكل مشاعرنا، فهل نحن في هذا العالم الحديث نستبق الحنين، ويغمرنا الشعور به في خضم اللحظة الراهنة؟!

الحنين الاستباقي

 الحنين كما جاء في مقالة “لماذا يُلاحقنا الحنين؟” هو ذلك الشعور الذي يمزج الزمان بالمكان بشكل ساحر وفريد، ويخلق حالة من الشوق الشديد لمحيط مألوف، ويرتبط ارتباط وثيق بأوقاتنا الماضية، وفي سياق آخر هو “حضور طاغٍ للغياب” فماذا لو أن الغائب هو الحاضر! وأننا في عالم ما بعد الحداثة، نعاني من ذوبان الحاضر وعدم استيعابه، فيغيب حاضرنا ونحن نعيشه، ولهذا نستبق الحنين، ونعيش فيما يسمى الحنين الاستباقي.

والحنين الاستباقي كما جاء في مقالة نشرت في مجلة علم النفس اليوم، هو شكل حديث من أشكال الحنين يركز على المستقبل، ولا ينطوي على تذكر الماضي وتفاصيله، فهو مزيج من المشاعر التي تدفعنا إلى النظر للحاضر من خلال عدسة المستقبل، ورغم أن اللحظة بمشاعرها المختلفة لا زالت بين أيدينا، إلا أن إدراك زوالها السريع وتحولها للماضي يحاصرنا، لذلك نصاب عندها بنفس مشاعر الحنين الاعتيادي؛ خليط من لذة الشعور وألم فراقه. فنعيش تجربة فقدان ما لم يُفقد بعد!
فمثلا، عندما تستغرق في مراقبة أطفالك، وفي تلك اللحظة التي تدرك فيها بأنّ بقاءهم أمام ناظريك لن يدوم للأبد، وأن حاجتهم لك تتضاءل يومًا بعد يوم، هنا يغمرك الحنين الاستباقي، فتشعر بالحنين لتلك اللحظة التي تعيشها الآن، قبل أن تزول، وكذلك في آخر يوم من رحلة سفر سعيدة قضيتها في منتجع بإطلالة ساحرة، وتتذكر حينها أن هذه اللحظة لن تدوم، وأنها على وشك الانتهاء، فيأخذك عقلك في رحلة للمستقبل وتنبؤات عديدة للمشاعر التي ستجتاحك عند تذكرك لتفاصيل هذه الرحلة، بالرغم أن اللحظة لا زالت رهن يديك ولا زال بإمكانك الاستمتاع بها. 

نحن نستبق الحنين من فرط إدراكنا لسرعة زوال اللحظة الراهنة، فنَحِن للحاضر ونحنُ نعيش فيه، لأننا في عالم حديث، شديد السرعة، للحد الذي يلتبس فيه حاضرنا بالماضي! 

لماذا نستبق الحنين؟ 

يمكن القول بأننا نصاب بالحنين الاستباقي اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب تسارع رتم الحياة الذي جعلنا على يقين تام بأن اللحظة الراهنة ستمضي بسرعة خاطفة كغيرها من اللحظات، لذلك يلاحقنا هاجس الحنين لها، وبدلًا من أن نعيش اللحظة ومشاعرها نعلن حالة حداد مبكرة على رحيلها، ونغرق في الغياب في ذروة اللحظة الحالية، ولا يتبقى لنا سوى الحنين للحاضر باعتباره ماضيًا، وهذا من فرط التحول السريع، الذي لا هوادة فيه، فنسلم لفكرة أن الزمن يتفلت من بين أيدينا وننأى عن عيش اللحظة، وقد تكون أحد أسباب استباقنا الحنين هو ما نعانيه اليوم من انشغال دائم بالغد فتجد أن محادثتنا مع العائلة والأصدقاء تكاد لا تخلو من الأسئلة الغزيرة المتمحورة حول المستقبل وخططنا له، حتى نجد أنفسنا مطالبين دائمًا بإن نكون متأهبين للغد، للحد الذي يجعلنا لا ننفصل عن اللحظة فحسب بل ونتعامل معها كجزء مفقود من حاضرنا، نبتعد عنها عاطفيًا ويتحفز  لدينا شعور الحنين، والنتيجة أننا نفتقد أشخاصًا ومواقف لم نفقدها بعد، ونخلق صراعًا وهميًا بين حاضرنا الفعلي ومستقبلنا الافتراضي

اختلاس اللحظة

نحن في عصر يزخر بالمشتتات ولم تعد حياتنا الطبيعية تكفينا، بل أصبح اكتفاء أحدنا بحياته الواقعية بعيدًا عن حياته الافتراضية التي يحملها معه في الحل والترحال هو تصرف أقرب للجنون، وحكم صريح على النفس بتجرع مرارة الغربة، فلا غنى لنا عن حياتنا الافتراضية بما تحمله من صداقات ومتابعات والكثير من المشتتات، وهذا المجتمع الافتراضي غرق فيه الإنسان الحديث، فأصبح شبه مستحيل أن تعيش لحظتك الراهنة دون أن يقطعها إشعارًا أو تنبيهًا يفصلك بطريقة أو بأخرى عن محيطك الحالي، فيبقى دماغك على الدوام في حالة غير مستقرة، فنحن ننتقل بتركيزنا عن واقعنا الفعلي بمشاعره المختلفة، إلى واقع آخر افتراضي يحمل وابلًا من المشاعر التي قد تناقض مشاعر اللحظة وتفسدها، لذلك يغمرنا الحنين الاستباقي لأننا ندرك أنّ حاضرنا الذي ننعم به ما هو إلا ومضة من ومضات الحياة التي سنفتقدها سريعًا.

ربما هذا ما يفسر هوسنا الحديث بالتصوير، كمحاولة لتجميد المشاعر، وحفظها لأطول وقت ممكن، فربما عن طريق التقاط الصور والفيديوهات يتسنى للإنسان الحديث الشعور بطيفٍ من حاضره المسروق مجددًا في المستقبل.
يقول أحد الباحثين “إن هواتفنا الذكية وسهولة التصوير الفوري هو سبب رئيس في تغذية نار الحنين الاستباقي ” فالبعض يفسر الشعور ويتعامل معه كمنبه يذكره بضرورة التقاط اللحظة وتوثيقها، ويربط سعادة اللحظة والهناء بها بحقيقة أنها يجب أن تخلد في ألبوم الصور أو على حساباته في منصات التواصل الاجتماعي، فيبادر لحفظ مشاعر تلك اللحظة وتجميدها على هيئة صورة أو فيديو، ظنًا منه أنها طريقة فعالة لاستعادة الشعور في المستقبل القريب ولكنها في الحقيقة طريقة وهمية لا تحفظ صدق المشاعر وأنما تثبت لنا  واقع انقضاء اللحظة فننظر لها باعتبارها ماضيًا وجب الحنين إليه.

الحنين الاستباقي يسرق اللحظة أم يعمق شعورها؟

قد يبدو الحنين الاستباقي كشبح سارق للحظات، هادمًا للملذات، يأتي ليذكرنا بحقيقة أن السعادة التي تغمرنا في الوقت الحالي ما هي إلا شعور محتمٌ علينا وداعه، ولكنه في الآن ذاته يعمل كرسالة عميقة من دواخلنا، تذكرنا بحقيقة انقضاء هذه اللحظة، فننظر لها بعين التقدير، ويعمل هذا الشعور على إعادة تركيزنا على اللحظة الحالية، وإزاحة المشتتات ولو قليل.

 وهذا التناقض في المشاعر التي يولدها الحنين الاستباقي لم يكن لغزًا علينا وفقط، بل اختلف خبراء علم النفس أيضًا في تصنيف مشاعر الحنين الاستباقي، فمنهم من صنفها على أنها مشاعر سلبية تحرم الأشخاص من الانخراط الكلي في الحاضر وتجلب الحزن لفقدانه قبل الأوان، وتعقد من الاستمتاع به، والبعض الآخر يرى أنه يعمق تقدير اللحظة والشعور بها، وهذا إنما يحول اللحظات الروتينية الخالية من المميزات في نظر صاحبها إلى لحظات عميقة وذات مغزى.
وفي دراسة أجريت على مجموعة من الأشخاص لمعرفة ما إذا كان الحنين الاستباقي يعمق الشعور باللحظة أم يسرقها، قسّموا المشتركين فيها إلى مجموعتين وطلبوا منهم تخيل قضاء عطلة نهاية الأسبوع في ديزني لاند، ثم عرضوا على المجموعة الأولى إعلانًا يحمل عبارة تقول: “استمتع باللحظة فسوف تفتقدها لاحقًا” لتحفيز الشعور بالحنين الاستباقي لديهم، بينما عُرِض على المجموعة الثانية نفس الإعلان لكن دون وجود العبارة. 

وأشارت النتائج إلى أن المجموعة التي عرض عليها الإعلان الذي يحمل العبارة كانوا أقل انغماسًا وأقل استمتاعًا من المجموعة الأخرى. ورغم أن نتائج الدراسة التي تدعم حقيقة التأثير السلبي للحنين الاستباقي على الفرد إلا أن أسباب انخفاض المتعة لدى المجموعة لا زالت مجهولة وما زال تصنيف الحنين الاستباقي كمشاعر سلبية أو إيجابية غير واضح.

 في الغالب نحن من نضفي المعنى على اللحنين الاستباقي، فنحن لا نملك حرية التحكم بالمشاعر ولكننا نملك الحرية المطلقة في طريقة التعامل معها والاستجابة لها، فإما أن نسمح لذلك الشعور بسرقة اللحظة الراهنة ونتحسر على فكرة مضيها أو نتعامل معه كصحوة روحية تنتشلنا من كل ما قد يشتتنا عن لحظتنا الحالية.

ربما إحساس الإنسان الحديث بالحنين الاستباقي، أو الحنين للحظته الحالية، هو جرس إنذار، ينبهه بقيمة اللحظة الحالية، وما تحملها من أحداث جميلة، ويذكره بأن يسمح لروحه أن تتصل باللحظة وأن يبوح بمشاعره الصادقة لمن يشاركه إياها، وقد يكون هذا الشعور، طريقة تخبرنا بها ذاكرتنا بأن نترك لها مهمة انتقاء الذكريات، دون تدخل كثيف من تلك الآلات الصغيرة التي تلتقط لحظات عشوائية وتشتتنا عن عمق الشعور. 

في النهاية، تذكر أن المشاعر لطالما كانت دليلنا، ترينا أحداث الحياة بمنظور مختلف، والحنين الاستباقي ما هو إلا أحدها، على الرغم من أنه شعور مؤلم، إلا أنه ربما يدفعنا لننغمس في اللحظة الحالية، ونعيشها بقوة أكبر وبإحساس كامل.

36
0

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن الكُتب
نحن لا نبحث عن السعادة بل نبحث عن أسبابها، ولا نبحث عن الحب بل نبحث عمن يعطيه بلا شروط، ولا نفتعل الدهشة بل هي من تباغتنا، نحن الأسباب وإن عجزنا عن إدراك ذلك.

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق

البحث عن المعنى

عن السفر
كنت أتساءل ما الذي يعنيه الاتساع؟ انبثقت صورة في ذهني للطبيعة الخلابة، نسيم الهواء العذب، السير على الأقدام لمسافات طويلة والحديث الرحب مع الغرباء.

وقت القراءة المتوقع: 22 دقيقة

السفر للاتساع

عن التطوير الذاتي
لطالما تساءلت عن ماهية الحرية الحقيقية: أهي التحرر من القيود كلها؟ أم أن تحلق كطير في السماء؟ أو أن تعيش كما تريد؟ هل هي مجرد مصطلح لا معنى ملموس له؟ ما معنى أن تكون حراً؟

وقت القراءة المتوقع: 4 دقائق

ماهية الحرية

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً