نعيش في عالمٍ سريع، يُدوّخنا دورانه المستمر، نُعاني من صعوبة في الإحساس الكامل باللحظة الراهنة التي نعيشها، تمتليء أرواحنا بالتشكك في كوننا سعداء حقًا، فتمر اللحظة الراهنة دون أن نشعر بها، أو نُحسن فهمها. نحن في هذا العالم السريع، ضحايا لسرقة بشعة؛ سرقة اللحظة الراهنة بما تحتويه من سعادة ورفقة وحب.
ملاحقة السعادة
نلتقط الصور كرد فعلٍ لعجزنا المستمر على الشعور الكامل باللحظة الراهنة، نوثقها، لنعود إليها، لا لإجترار نفس الشعور بالسعادة فحسب بل لإدراكه أصلا لأول مرّة. ذلك الشعور الذي كان يجب أن نعيشه في لحظتها، رُغمًا عن التشكك، معايير المجتمع، خوفنا من النهايات، وما يشتت رؤوسنا. كتب فونتونيل: «أيتها السعادة لم ألحظ وجودك إلا عندما سمعت صوت هروبك». نحن في هذه الحالة نبني تجربتنا الشعورية عبر الصور، نعود لها لنقاوم عجزنا على استيعاب سعادة اللحظة الراهنة، لأننا مشتتين، منوّمين مغناطيسيًا عبر شاشات باردة، تعبث بالمعايير، تلوث عقولنا بوهم يسمى اللحظة المثالية، فبدلا من أن نعيش، نطرح الأسئلة! وعبر الصور فقط، نكتشف أننا عشنا الكثير من اللحظات المثالية، كأننا لا نعيش بشكل كامل في اللحظة الحية، نعيش فقط في حياة ملتقطة ومثبتة في صور.
محاولة للخلود
مأساتنا نحن البشر هو إدراكنا لحقيقة أن لكل شيء نهاية، وهناك لحظات لا نطيق أن نتخيلها تنتهي، وينتهي الإحساس الذي غمرنا في هذه اللحظة، ما العمل؟ نلتقط الصور، كمراوغة لهذا العجز على إبقاء أيّ شيء ثابت في مكانه، نصور الكثير من الصور، تحسبًا لنهايات غادرة، تأتي دائمًا قبل موعدها، باردة، بلا معنى، تأتي كاشفة عن سؤال قاسٍ؛ هل حقًا عشنا هذا الإحساس أو ذاك من قبل؟
وهذا الولع بالتصوير يزداد كلما زاد وعي الإنسان وإدراكه لحتمية نهاية كل شيء، فيصبح التصوير فعل لاإرادي، يخفف فجيعة الشعور بأن كل اللحظات مآلها الفناء. وعبر التقاطنا للصور، نُجمد تلك اللحظات، كمحاولة للوقوف أمام الزمن، ذلك الدوران المتوحش الذي يبعثر اللحظات، ويحيلها دون هوّادة لذكرى ماضية، فتضيع كذرّاتِ طحينٍ تتناثر من على ثوبٍ يخفق بقوة.
«الحياة فيض من ذكريات تصب في بحر النسيان» يقول نجيب محفوظ
نلتقط الصور لنخطف لحظاتنا المميزة من فم النسيان، في صورة نثبتها ونؤطرها، نقاوم بها الزمن، نقول: ها نحن فُزنا بإبقاء تلك اللحظة في صورة باقية، تنتقل عبر الأجيال، تقاوم الفناء، وتبقى لتمثل لحظة رآها مصوّرها أنها خليقة بالخلود!
الصور وثقافة الـ «Stories»
الصور في حدّ ذاتها فعل تأمل، توقيف لحركة العالم السريع، تكثيف اللحظة الراهنة لعيشها مرارًا لا مرّة واحدة. «التصوير الفوتوغرافي يستغرق لحظة من الزمن، ويغير الحياة من خلال الحفاظ على الحركة». على حد وصف المصورة الوثائقية دوروثي لانج.
تكتسب الصورة قيمتها في ثباتها وقدرتها على تجميد اللحظة واتاحة العودة إليها مرارًا، وهذا عكس تمامًا آلية عمل الصور المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي كقصص (Stories)، تتحرك تلك القصص بسرعة كبيرة كطلقات متتالية، تدفعنا لفعل شيء ما لا نعرف كنهه، نكون نحن الثابتين والمجمدين في مكاننا والصور هي المتحركة في دوران لا يتوقف، هذا الدوران السريع للصور، والذي أحيانًا يكون أسرع من الواقع عبر خصائص التسريع الحديثة، يجعلنا نمر مرورًا لحظيًا على قصص الآخرين، دون اكتساب أيّ شعور عميق، الحالة العاطفية ليس لها الوقت الكافي للنضج، حيث نستهلك الطاقة الشعورية قبل أن تتحول لإحساس عميق، لذلك كل القصص والحالات مآلها النسيان اللحظيّ، بمجرد أن تتخطاها تنسى محتواها تمامًا، ولا أحد يعود مرّة أخرى لرؤيتها، ومن ثم تختفي تمامًا من الوجود بعد مرور وقتها المحدد، عكس الصورة الثابتة التي نحتفظ بها بشكل شخصي، وتربطنا بها علاقة شعورية تُبقيها حيّة ضد النسيان، نتأملها، كوقفة زمنية، تُهدّيء من وتيرة الحياة وسطوة العالم الحديث.
امتلاك سلميّ للجمال
الأنانية داء إنسانيّ ينتشر في داخلنا، نسعى للامتلاك دائمًا؛ امتلاك الحب، امتلاك من نحبهم، امتلاك الجمال، امتلاك أشياء كثيرة تمتليء بها حياتنا. ولكي نتذوق الجمال، نستقبله ونلتحم معه، يجب التحرر من القصدية، وإلغاء الانتفاع على الأقل في بعض الأفعال البسيطة في الحياة لنبقِ احساسنا يقظًا. يفسد الجمال بامتلاكنا له، كامتلاك عصفور وسلبه لحريته فقط لأننا أحببنا غناءه، التصوير هو الاستمتاع بغناء العصفور والشعور الكامل بجمال صوت الغناء، دون المساس بحريته، أما نشر الصور في حالات وقصص على مواقع التواصل الاجتماعي فقط لمجرد الاستعراض، وقبل استيعاب المعنى والشعور الكامل به هو بمثابة حبس العصفور في القفص.
نلتقط الصور؛ لعلنا نمتلك شيء في هذا العالم
لا نملك نحنُ البشر من أمرنا أي شيء، علي يقينٍ تام بأن لا شيء يبقى ثابتًا؛ لا نستطيع أن نبقى بجوار من أحببناهم، ولا أن نبقيهم جوارنا. لا نستطيع إطالة زمن السعادة، ولا تكرار لحظات السلام مع النفس النادرة، لا نملك مستقبلنا ولا ماضينا، ويا للأسف، نعيش في عالم حديث كل همّه تشتيتنا وسرقة حاضرنا، حيث الحيز الوحيد الذي ربما نملك فعل شيء ما حياله. الصور دليل أننا كنا سعداء في الماضي، أو حتى عانينا من البؤس، الصور دليل على فعل الحياة، في وقتٍ قد يصبح الإنسان فيه ضائعًا، تائهًا، حتى الحزن لا يقدر عليه، في مثل تلك الأوقات، حيث لا شيء يبدو واضحًا لنا، أن نرى دليلا ملموسًا عشنا فيه الحياة بضجيجها، حزنها وفرحها لشيء عظيم يخفف من ثقل لحظات التيه، ويرشدنا سريعًا للطريق مرّة أخرى.