جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

تساؤلات‎ ‎روحية‎ ‎تجيب‎ ‎عليها‎ ‎الأشجار

إحساس غامض متخم باندهاشٍ يتمددُ صداهُ في رأسي كأجراسِ القيامةِ. كما لو أن العالم قماشةٌ عريضة من زمن مُتحدٍ، فصلت إلى قطعتينِ، عالمين، زمنين، لا يربطهما شيءٌ سوى ذاكرة الروح،

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق
[gpd]

تحرير خديجة الصبار

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

“عندما نفقد تماسكنا وقدرتنا على تحمل الحياة، تحدثنا الأشجار قائلة: التزم الهدوء، التزم الهدوء وانظر إلي. توقف عن التفكير الطفولي. الحياة ليست سهلة، الحياة ليست صعبة. أنصت فقط إلى نداءات الإله بداخلك، أنا أثق أن الإله في داخلي، واثقة بأن ولادتي كانت مقدسة، وبتلك الثقة أقضي حياتي” هيرمان هيسَه

إحساس غامض متخم باندهاشٍ يتمددُ صداهُ في رأسي كأجراسِ القيامةِ. كما لو أن العالم قماشةٌ عريضة من زمن مُتحدٍ، فصلت إلى قطعتينِ، عالمين، زمنين، لا يربطهما شيءٌ سوى ذاكرة الروح، وخطوط ألم مخاضها. هذا الفاصلُ، بين خريف وربيع، يبدو كما لو أنه شرخ. هذه السيولة الزمنية تنسكبُ على كيان الإنسان فيّ، وتوصمُ عقله وروحهُ بآثارِ عميقة لأيام آلامه وازدهاره. إذن، لابدَ أنها تحملُ رسالةً ما، دفينة في أعماقه، أتكونُ هيَ الرسالة التي يبحث عنها خارج ذاته؟

 علاماتُ دورة التحول جلية، جليةٌ كجذع شجرة صلبٍ رمادي، خاوٍ من الأوراق في منتصف الربيع على خلاف باقي الغصونِ. شيءٌ ما يبدو كالمزيج بين نداء السقوط في الخريف، وصحوة التجدد، حتمية الفناء، وصرخة وجودية عنيدة. كل هذا، ولا تخلو شجرةٌ من قوة مسكونة بالحكمة الأزلية. في اللحظة التي يشعرُ فيها الإنسان أنه ينجرفُ إلى آخر أفق نحو الهاوية، ينتفضُ في الأعماق-أعماق الأرض-جذر شجرة جرداء واهنة، ليعلن عن مواسم النهوض، فليس ثمةَ ذبول كامل، ليس ثمة اكتمالٌ كُلي، وفي كليهما، هناكَ احتمالاتٌ جمّة للحياة، هذا هو النشيد الوطني الجوهري للأشجار.

حين تجتثكَ الآلام، لن تبدو الأشياء كما هيَ.

نتأمل الألم  فنتعرف عليه في صورته الحقيقية، يبدو لنا مفتاح الحقائق التي أوصد العالم دونها الأبواب. بعض هذه الحقائق: نفسكَ، الحياة، مهمتكَ الجوهرية في هذا الوجود. إن مجرد غياب حقيقة واحدة منهن، يشعر المرء بوحشةٍ مالحة باردة، كأسنة جليد جارحة.

 تقول شجرة: انظر إليّ! إلى جذوعي، هنا حيث دُونت كل الأزمنة التي عانيتُ فيها من رياح التحول، والموت، وهُنا حيثُ عدت.

تكمل: كُل تاريخي مكتوبٌ، كُل ألم، كُل انتهاء وابتداء، إنني أكبرُ منحوتة تاريخية عظيمة لتحولاتي. حين تستبدُ بي عواصف قاهرة، أعود للإصغاء، لتلكمُ الحلقات الدائرية في داخلي. تلك الأصوات، تملكُ حكمتي الخاصة، إن لكل شيء حكمته، وحكمتكم ترقد في أعماق نفوسكم. أنا أعرفُ من الذبول أسرار حياتي الخصبة، ومن الخصوبة آلام معرفتي بموجبِ المعاناة التي لو لم تكن ما كنتُ شجرة. إن كل مكتملٌ آخذٌ للنقصان، وكل ناقصٌ آخذ بالاكتمال.

أتأمل لوحات فان جوخ، أشجار الزيتون والسرو، وفروع أشجار التوت، ولوحته الأخيرة, جذور الشجرة تنتفضُ الأوهامُ تباعًا في عقلي، تنتفخ، ثم ما تلبثُ أن تنفجر، كالألغام. لا يتبقى منها سوى ما هو حقيقي، كما لو أن رياحًا دافئة تستطيعُ- أخيرًا- أن تدلف إلى عقلي وتُهدهدهُ. كما لو أن الزوبعات الأرجوانية العنيفة التي- لولا جمجمتي- لتبدت زلزلتها جلية. أعرف الآن، حين يبدو عقلي أكبر من العالم، تدهسني فكرة صغيرة كيف أنجو!  أطلق رجلاي للتجول، في غابة صغيرة، وفي حديقة مليئة بالأشجار. يلج إحساس ما روحي، حين أترك يدي تلمسُ جذع شجرة، إحساس بالتحرر، بالاقتراب من جوهر الحياة نفسها، من القلب النابض في مركز الوجود. تقول الشجرة: لا يمكنكَ أن تستدل بعقلكَ على كل الأشياء، ثمة ما هو وهمي وممرضٌ، ضبابي وغير واضح، كطوفان أسود ينمو ببطء. فاسمع: أستطيعُ بالحقيقة الساكنة في داخلي أن أُسكن أكثر العقول اضطرابا. إن الطبيعة والعقل يتضادان أكثر مما يتفقان، ولعل التضاد بينهما هو ما يجعلني طوق نجاةٍ لعقلٍ صغيرٍ يحترق.

حينَ أشعرُ بقرقعةِ الموتِ في جذوري أستطيعُ  حينئذٍ أن أقفَ، أمام كل شيءٍ، جرداءَ، بشموخ اليقظةِ في فورةِ الآلام، وانعدامِ الإشاراتِ التي بمجيء الطيرِ أفهمها.

لكن لا طيرَ ولا إشارة واحدة لانبعاثٍ جديدٍ، لا شيءِ سوى موسيقى العدمِ وهيَ تتراقصُ كالأشواكِ في باطني. لأنني شجرةٌ، أَحدٌ ما يهزُ أغصاني الرفيعة، وينادي أوراقَ خريفي الربيعي للسقوطِ، ويُمددُ جذوريَّ نحوَ أراضٍ بعيدة، يلفها حول العالم، يلفها حول روحي، يدفعني للانهمارِ والتجددِ. أستطيعُ أن ألحظَ عبوسَ الكائناتِ من حولي، وصوتُ الشفقةِ المتسلل من العيون. رغم هذا يتجذرُ صمودي في إضفائيَ على الطبيعةِ الصافية نزعةً خريفيةً فنية من الموت. هذه النزعةُ الرمادية تُبشر باحتمالاتٍ جمة، هذه اللوحةُ الخاويةُ لشجرةٍ تمرُ بمخاضِ معاناةٍ ما، تستعدُ في آن لاحتمالِ قوة الحياةِ القادمة.

حينَ يستبدُ الحزنُ بالروح، نشعرُ كما لو أن تشوهاتٍ كثيرة قد اندلعت لتَوها، وأن من الأجدرِ إخفاءُ الحريقِ المنبعثِ منها.

على إثرِ ذلك نلوذُ إلى العُزلةِ، نتوارى، وننكفئ. لوهلة، تمتزجُ هذه المسافة، تصيرُ مُتحدةً، بين من نكونُ وبين ما نختبرُ. بين حقيقة الروح وتحولات الحياة. وتولدُ الفجوةُ، فجوةٌ حالكة ككهفٍ عتيق، تخطفنا. لكن تعود أصداء الأشجار الحكيمةُ، تقولُ: اسمعوا، إن مساحاتِ مهولةٍ من أوطاننا تتعرضَ لمعموديةِ النار. إن الغاباتِ العظيمة تحترقُ لتمثلَ لكم أعظم تحولٍ وجودي لدورةِ الحياةِ والموت، وأسمى خلقٍ إبداعي للوحةِ الفناء والخلود. إنها تدعوكم للتأملِ في اللحظة الفاصلةِ، في الثانية الأبدية التي تقفُ بين زمنينِ، بين النور والظُلمةِ، بين اليأسِ والأملِ، بين البداية والنهاية، استعدادًا لانبعاثكم الجديد.

لا يكونُ في وسعِ أحدٍ أن يتساءل في خُلدهِ مُحتارًا: كيف تعرفُ الأشجار الحقائق؟

لأنه يدركَ يقينًا أنها لا تستطيعُ التنكرُ لحقيقتها. كل شجرةٍ مرآةٌ لأكثرِ عواطفنا الإنسانيةَ غموضًا وتعقيدًا.  تُفصحُ الأشجارعن نفسها بجلاءٍ، وعلى مرأى الأكوانِ كلها. لا ترضخُ للتوقعات ولا تطوق عنقها بحبال الواقع كما يفعلُ البشر. إنها اعتادت على خلقِ واقعها من العدم، وهيَ إذ تبدو مرئية تخاطب إلى الأبد هذا اللامرئي فينا.

11
0

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
2 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن التشافي
نحتاج لإعادة الاتصال بالأرض حتى نقوّي ارتباطنا بالحيز الذي ننتمي إليه فنفهم ذاتنا أكثر، ومن ثَمَّ نُقاوم الملل عبر إثراء المعنى في حياتنا.

وقت القراءة المتوقع: 12 دقيقة

لماذا نشعر بالملل؟

عن المدينة
الإبداع ليس نقمة أو نعمة، ولكنه احتمال يمكن تسخيره لصنع أثر عظيم. فليس على المبدعين أن يموتوا فقراء، ولا عليهم المساس بقيمهم ورؤاهم من أجل المال.

وقت القراءة المتوقع: 10 دقائق

كيف نحتفي بالمبدعين؟

عن العمل
من تجربتي في التعافي من الإحباط نتيجة الرفض بسبب فرط الخبرة، وجدت أن له جانبًا طيبًا، فهو يُعلم الصبر ويورث اتساعًا، ويُجردنا من بعض اللاواقعي من أفكارنا التي تسللت إلينا وقت طمأنينة وجود وظيفة.

وقت القراءة المتوقع: 7 دقائق

كيف نتجاوز الرفض بسبب «فرط الخبرة»؟

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً